القراءة والمشي

10 مايو 2021
10 مايو 2021

كنتُ قد أنهيتُ المقال السابق المعنون بـ «الكتابة والمشي» المنشور في هذه المساحة من جريدة عُمان في عددها الصادر يوم الثلاثاء 27 أبريل 2021 بالقول: «إن النصوص التي تتحدث عن العلاقة بين الكتابة والمشي تُلهمنا على مستويين: مستوى جمالي ومستوى بدني؛ لأنها نصوص تثير في القارئ رغبة المشي فور الانتهاء من قراءتها»، وافترضتُ «أن الكتابة ليست وحدها ما يحتاج إلى حركة الأقدام، بل القراءة أيضا». إذ نستطيع أن نستحضر عشرات النصوص التي تثير فينا الرغبة في المشي بعد كل مرة نقرأُها فيها، حتى تكاد تأخذ القارئ من يده ليمشي من فوره على وقع كلماتها. فمن منا مثلا لم تستثر فيه أبيات إبراهيم ناجي - التي غنّتها أم كلثوم - الرغبة في المشي:

ومشينـــــا في طريــــــــق مقمـــــــــــر تثب الفرحــــــة فيه قبلنــــــــــــا

وضحكنا ضحك طفلين معا وعــــــــدونا فسبقنــــــــــــــــــا ظلنـــا

وغيرها الكثير من الأمثلة شعرا ونثرا، ولكن عند مقاربة العلاقة بين القراءة والمشي، من الجيد أن ندرك الفرق بين الكتابة والقراءة في علاقة كلٍّ منهما بالمشي؛ ذلك أنه إذا كان تأثير المشي في الكتابة جليًّا بالنحو الذي طالعناه في المقال السابق أو في غيره مما تناول هذا الارتباط منذ كتابات الفلاسفة اليونانيين وحتى اليوم، فإنما كان ذلك بسبب الكتّاب أنفسهم الذين وثّقوا ارتباطهم بالمشي لإنجاز عملية الكتابة. ولكن الأمر على خلافه مع القراءة؛ إذ ليس من السهل العثور على نصوص تثبت العلاقة بين القراءة والمشي منذ عرف الإنسان فك رموز الكتابة؛ وذلك لأن القارئ ليس كاتبًا بالضرورة، ولن يهتم- إلا ما ندر- بتوثيق الارتباط بين القراءة وممارسته المشي أكثر من إحساس خاص قد يخامره بعد إتمامه قراءة كتاب أو فراغه من حصة مشي.

ولعلّ هذا ما حدا بكاتب المقالات الكَنَدي سان برسكي إلى أن يُسِرَّ إلى صديقه ألبرتو مانجويل بالقول: إنه «يجب على القرّاء أن يكون لهم مليون سيرة ذاتية». ولنتخيل حجم ما يفوتنا عندما يتعلق الأمر بالقراء وما قد تحدثه القراءة فيهم من انطباعات أو سلوكيات لن نجد وسيلة لمعرفتها، على عكس عشيرة المشّائين من الكتّاب على مرّ العصور الذين تركوا لنا مادة أدبية وفكرية يسهل تتبعها، بينما القارئ العادي قلما يترك أثرا يشير إلى تأثير هذا الكتاب أو ذاك في نفسه، سواء بدفعه إلى المشي أم غيره، إلا إذا كان كاتبا هو الآخر.

ولكن فرجينيا وولف ترشدنا إلى طريقة مفيدة في تتبع أثر القراءة على القرّاء، تلك هي الانطباعات التي يكتبها بعضهم على الهوامش وحوافّ الصفحات؛ فهي علامات تدل على قارئ ترك رأيه، أو انطباعه، أو إحساسه إزاء ما قرأ فيما يشبه سيرة قرائية لكتاب، أو حتى سيرة قرائية لكاتب بعينه. تقول فرجينيا وولف: «إن كتابة الانطباعات عن هاملت عند قراءته عاما بعد عام، يشبه كتابة القارئ سيرته الذاتية، ذلك أنه عندما تتزايد معرفتنا بالحياة باطّراد، يقوم شكسبير بتزويدنا بالتعليق اللازم على معرفتنا».

وبصرف النظر عمّا يمكن أن تقدمه الانطباعات من فائدة عامة وكبيرة فيما يمكن أن ينشأ من دراسات عن هذا النوع من سِيَر القراء على إثر هذه الانطباعات، إلا أنها تفترض تتبع الكتب المستعملة بنحو خاص؛ تلك التي مرّت على قارئ سابق أو قراء سابقين، لا سيما إذا كانوا قراءً معلومين أو حتى مجهولين، للوقوف على ما يمكن أن يكون إشارة أو انطباعا تراكمت مع الوقت لتصبح سيرة قرائية. ولكن ليس علينا إغفال أن ليس كل القراء يكتبون هوامش وانطباعات على حوافّ الصفحات. وإذا كانوا ممن يكتبونها وحدث أن دفع أحدَهم كتابٌ للمشي بعد قراءته فلمَ عساه يكتب ذلك؟ من الأجدى أن يتركه جانبا ويطلق ساقيه للحركة فورا!

إلا أن أمر كتابة الانطباعات قد أصبح أكثر شيوعا في العصر الحديث من الكتابة على حوافّ الصفحات في الكتب الورقية، بسبب التحول التقني الذي أفرد مساحات أسهل وأسرع وصولا لمتتبعي هذا النوع من الأثر، تلك هي مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبح أبسط القراء يكتبون فيها انطباعاتهم عن كتب قرأوها، فضلا عن المواقع المتخصصة لتدوين آراء القرّاء كموقع goodreads مثلا.

قد يصوّر ما سبق المشي وكأنه فعلٌ لاحقٌ للقراءة بالضرورة أو حتى سابقا عليها، ولكن المشي قد يكون مزامنا للقراءة أيضا. ومن المفيد أن ندرك أن القراءة ليست فك رموز الأحرف في الكتب وحدها، وإنما هي نشاط موجّه لفكّ رموز العلامات المبثوثة أينما وجدت وفي مختلف الوسائط. وفي هذا يقول ألبرتو مانجويل مؤلف كتاب «تاريخ القراءة»- وغيره من الكتب المتصلة بالقراءة وتنويعاتها كـ «فن القراءة»، و«يوميات القراءة»، و«المكتبة في الليل»- يقول: «ما قراءة الأحرف على صفحة من الصفحات إلا أحد مظاهر هذه الكفاءات. فعالم الفلك يقرأ في السماء النجوم التي اندثرت منذ زمن مضى؛ ويقرأ المهندسون المعماريون اليابانيون طبيعة قطعة الأرض كي يبنوا عليها بيتا بطريقة تحميه من الأرواح الشريرة، ويقرأ الصيادون والباحثون الطبيعيون آثار الحيوانات في الغابة ويتقفون خطاها،...» وهكذا فالقراءة عملية فهم، والمشي بدوره شكل من أشكال القراءة؛ لأن الماشي يقابل في مشوار مشيه علامات لا نهائية تتطلب منه فهمها وفك رموزها. وليس البصر وحده ما يتلقى تلك العلامات، ولكن السمع أيضا؛ إذ يستمع الماشي وهو في طريقه لرموز سمعية تتطلب منه الجهد ذاته لفهمها وإدراكها. وهكذا يجد الماشي في طريقه أكثر مما قد يجده في كتاب محدود الصفحات. بل إن أحدهم ساوى بين المشي والقراءة، ذاك هو تشارلز لام الذي يعترف بحبه للتيه في عقول أناس آخرين، قائلا: «عندما لا أتمشى أقرأ. إنني لا أستطيع أن أجلس ببساطة وأن أفكر. الكتب تفكّر عني». في تصور لام يأتي المشي أولا، ثم القراءة عندما يتعذر المشي؛ فالقراءة عنده مشيٌ أيضا ولكن في أفكار الآخرين، أما الجلوس فهو انتفاء للمشي في شكليه معا: في المسافات، وفي الأفكار.

وفي تجاربنا مع القراءة، قد يحدث أن نمشي بينما نقرأ، ولا أقصد بذلك أن يسير أحدنا في الطريق وبيده كتاب يطالع فيه فيشغله عن قراءة العلامات في الطريق - على الرغم من تطور الأدوات التي تساعد على القراءة الآمنة أثناء المشي- ولكن كثيرا من النصوص الأدبية تشعرنا بأننا نمشي ونحن نقرأُها. وتلك هي النصوص التي تُصوّر عالما متحركا، أو أماكن مصوَّرة ندخل عوالمها ماشين على أقدامنا، نقتفي أثر الشخصيات التي تمشي في النص، لنجدنا نتبع خطاها ونجهد بجهدها، فننسى أننا نقرأ ونشعر لوهلة وكأننا نمشي حتى لن نعود نفرّق بين المشي والقراءة. مثاله الأقرب قصة «مشوار المشي» لروبرت فالزر التي أوردناها في المقال السابق، التي يجد القارئ فيها نفسه يمشي مع البطل فيرى ما يراه، ويسمع ما يسمعه. بل إن كتبا أخرى لا نستطيع معاودة قراءتها فور الانتهاء منها، مخالفين النصيحة التي تقول: «إذا أعجبك كتاب ما فأعد قراءته فورا»؛ وذلك لأن المجهود الذي تخلّفه قراءته فينا، يشبه المجهود الذي نبذله لو كنا نمشي، وتتطلب فكرة معاودة القراءة استراحة كتلك التي نحتاجها بعد سفر طويل.

ولعل أكثر الأمثلة التي تسعفنا في ترجمة العلاقة بين القراءة والمشي هي كتب أدب الرحلات التي يصف مؤلفوها طرقًا وعرة سلكوها على أقدامهم، ووهادا عبروها، وحيوانات برية صارعوها، ونحن نتبعهم كما لو كنا نسير على خطاهم مشيا عبر الكلمات. مثال آخر: كتاب الصحراء العربية لويلفرد ثيسجر في عبوره لصحراء الربع الخالي، أو وصف الرحلة الطويلة من مصر إلى الحجاز سيرا على الأقدام وعلى ظهور الدوابّ في رواية «النبطي» ليوسف زيدان، وغيرها من الكتب التي (تُمَشّي) قراءها بينما يقرأون، وإن مجازيًّا. وهل القراءة إلا مشي على رصيف الكلمات؟

ولكن هل يمكن أن يمشي النص أيضا مثلما يمشي قارئه في إثره سطرا سطرا وصفحة وراء صفحة؟ في الواقع لا يوجد نص ساكن، فالنص الساكن الوحيد هو ذاك الذي لم يقرأه أحد بعد، أما النص المقروء فهو نص متحرك، لأن للنصوص صفات الطريق، ككل المسافات التي لا بد أن تُقطع بين حدّي البداية والنهاية بغضّ النظر عن طريقة قطعنا لها: مشيا أو هرولة أو قفزا أو وثبا (يذكرنا هذا من جديد بعبارة الفيلسوف مونتيني «الكتابة بالقفز والوثب») بيد أنها «القراءة بالقفز والوثب» هذه المرة. يمشي النص بذاته، كما يمشي بغيره عبر التنقل بين أيدي قرائه. يكتب مانجويل عبارة مهمة قد تشرح هذه الفكرة يقول: «هناك شيء لا يمكن لكلمة «نص» أن تصفه بصورة كافية شافية، إنه شيء يتطور ويتقدم وينمو، ويعمق جذوره داخل الوقت الذي أقرأ أنا فيه». وهذا الإحساس بالتقدم والتطور لا يمكنه أن يتحقق لولا القارئ وهو يوالي الصفحات ويتعقب السطور. بمعنى آخر يمرّن القارئُ النصَ على المشي، أو يُشغّله بمعنى أصح، ويحثه على قول أكثر مما يُظهره، وكلما زادت قدرة القارئ على تنشيط النص أنتج معاني أبعد وكشف طبقات أعمق.

ومنذ المرة الأولى التي قرأتُ فيها مقولة أمبرتو إيكو: «النص آلة كسولة تتطلب من القارئ القيام بعمل مشترك لملء البياضات غير المقولة فيه»، وأنا أتخيله كآلة المشي المُهمَلة التي تنتظر قارئا يُشغّلها ويبدأ في السير عليها، فتستجيب له وتحدد لياقته سرعة دورانها، ووفقا لانسجام سرعتها مع لياقته يحصل الناتج المطلوب.

ولكن يحدث أن تصادفنا نصوص تتمشى هي الأخرى على الورق بحركات التفاف وصعود وهبوط في بياض الصفحة، لتؤدي معنى محددا ما كانت لتؤديه بالكتابة العادية. نطالع مثل هذا النموذج في بعض أبيات الشعر التي تُقرأ بشكل معكوس أو الأبيات التي تُقرأ بشكل أفعواني أو حتى من الأعلى إلى الأسفل والعكس على سبيل إثبات قدرة قائلها على الإتيان بما يُدهش على الصعيد الشكلي. وفي قصة قصيرة لسليمان المعمري ضمن مجموعته القصصية «الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة» يكتب عن ثعلب وعاصفة، قرر الأول أن يعلّم الثانية النظر إلى الأرض، وتعلمه هي النظر إلى السماء: يكتبها المعمري هكذا:

«ويبدآن الدرس الأول:

يقول لها: لتري الأرض

نكسي

رأسك

قليلا

وامشي

وامش

قليلا

رأسك

ارفع

وتقول له: لترى السماء»

تمشي الكلمات في هذا النموذج تجسيدا للمعنى الذي كُتبت لأجله، وعلى القارئ أن يمشي معها لتحصيل المعنى المطلوب، من الأعلى تارة ومن الأسفل تارة أخرى. وأحسب أنها لو كتبت بالطريقة العادية لما أحدثت الفرق الذي نحسه وهي تمشي على الصفحة بهذا النحو.

وعلى الجانب الآخر هناك من الكُتّاب من يقيس مسافة المشي على الواقع ليرسمها بالدقة نفسها في النص التخييلي، ويكفي أن نذكر في هذا الصدد أمبرتو إيكو في كتابه «اعترافات روائي ناشئ» الذي يعترف فيه أنه كان يمشي في الأماكن التي ستدور فيها أحداث رواياته، ويقيس أبعاد الحانات والأديرة، ويقدّر الخطوات التي يمكن أن تمشيها الشخصيات في كل مكان منها، ويقدّر الحوار الذي يمكن أن تتسع له المسافة بين طرفي ممشى أو طريق، حتى أن صانع أفلام اقترح إخراج روايته «اسم الوردة» قال له: «يبدو أن كتابك صُمم لكي نستخرج منه سيناريو، ذلك أن الحوارات متناسقة بشكل جيد مع المسافات». يعلّق إيكو: «تذكرت أنني قبل أن أبدأ الكتابة كنت قد رسمت مئات المتاهات وتصاميم الأديرة، بحيث إنني كنت أعرف كم من الوقت تحتاجه شخصيتان لكي تنتقلا من مكان إلى آخر، وهما تتبادلان الحديث. وبهذا يكون تصميم عالمي التخييلي هو الذي أملى عليّ تحديد حجم الحوارات».

وبسبب تمارين المشي هذه قبل الشروع في كتابة رواياته، ما كان يعدم أن يجد قراء يخبرونه بين حين وآخر أنهم اقتفوا آثار الأماكن التي يؤثثها لشخصياته ومسارح أحداثها. وهذا يقودنا إلى ما بات يعرف بالرحلات الأدبية؛ وهي أن يقتفي قارئٌ أثرَ كاتب أو شخصيات رواياته بالسير في الأماكن التي سارت فيها الشخصيات، أو التي دارت فيها أحداث رواية بعينها؛ فتصبح تلك الأماكن علامات يحجّ إليها القراء من كل مكان. وليس أجمل من مقالات نطالعها بين فينة وأخرى يتتبع كُتابها أثر نجيب محفوظ، أو أمبرتو إيكو، أو غيرهما من الكُتاب بالذهاب حيث كانوا يترددون أو ترددت شخصياتهم، ونستحضر بشكل خاص كتاب إيمان مرسال «في أثر عنايات الزيات» مقتفية أثرها في الأماكن والوجوه، وسيحتاج هذا إلى وقفة موسّعة.

وفي فكرة مُلهمة من صميم العلاقة بين القراءة والمشي، أنشأ الروائي الكويتي عبدالوهاب الحمّادي مشروع «باب للرحلات» ينظّم بين فينة وأخرى رحلات أدبية وتاريخية على الأقدام، تأخذ القرّاء لاقتفاء أثر روايات بعينها. فقد نظّم رحلة في إثر رواية «فئران أمي حصة» لسعود السنعوسي مثلا، ومشى قراء الرواية في الأماكن نفسها التي مشت فيها شخصيات الرواية: فهد وصادق والكتكوت، وساروا على أرصفة الشارع نفسه الذي ركضت فيه محظوظة ومبروكة في المشهد الأخير من المسلسل الكويتي الشهير «على الدنيا السلام» وهما تهربان من الفئران، وهو المسلسل الذي استلهمه السنعوسي في روايته الصادرة في عام 2015. وكذلك فعل «باب للرحلات» أيضا مع رواية «لا موسيقى في الأحمدي» للروائية منى الشمري.

وفي عُمان، ظهرت فكرة مشابهة من خلال مشروع «فكرة» لصاحبته الدكتورة هبة عبدالعزيز، ويقوم على تسيير رحلات ثقافية يومية سيرا على الأقدام في محيط مسقط ومطرح، لقراءة تاريخ المكان واستنطاق معالمه التاريخية والثقافية.

يبقى أن تاريخ ارتباط القراءة بالمشي لا يزال مجهولا أغلبه، وما ظهر منه لا يزال أقل من التاريخ الفعلي؛ ففي الختام، وكما يقول مانجويل: «التاريخ الحقيقي للقراءة هو في الواقع تاريخ كل قارئ مع القراءة» منذ تعلّم الإنسان فك رموز الألواح الصلصالية.