العربية... في منفاها اللغوي

17 يونيو 2023
17 يونيو 2023

يُعدّ بوريس خيرسونسكي، المولود في تشيرنفتسي عام 1950، واحدا من أبرز الشعراء الذين كتبوا باللغة الروسية في أوكرانيا طيلة السنوات الماضية. وقد اعتاد خلال مشواره الأدبي والأكاديمي تجاهل لغة الدولة الرسمية، الأوكرانية التي يجيدها، بصورة طبيعية ودون أن يثير بذلك أي جدل حوله. فهو يؤلف وينشر ويقدم محاضراته للطلبة منذ سنوات باللغة الروسية التي اختار معجمها من البداية ليكون خاما للغته الشعرية. ولكن ما أثار الانتباه مؤخرا إلى خيرسونسكي كان إعلانه الإضراب عن التعبير بالروسية شفويا وكتابيا، منحازا للكتابة والكلام باللغة الرسمية لبلاده، أي اللغة الأوكرانية، في احتجاج شعري صريح يقدمه الشاعر للعالم ضد الحرب التي تشنها روسيا على بلاده منذ فبراير- العام الماضي، ولنا الآن أن نتأمل كيف لتقلبات مزاج التاريخ أن تهدد تطامن الشاعر إلى لغته؛ فقد تهتز الأرض فجأة فتصبح لغة الشاعر لغة معادية!

احتجاج خيرسونسكي، الأخلاقي والشعري معا، يثير الحنين لذلك الارتباط السري بين اللغة والسُّكنى، ويستدعي معه تلك التساؤلات التي كتب عنها الشاعر الأوكراني إيليا كاميينسكي مُستشهدا بالبيان الاحتجاجي لصديقه؛ فهل اللغةُ مكانٌ يمكن الرحيل عنه كما يتساءل كاميينسكي؟(1) إن صحَّ هذا الاعتراف باللغة كمكان صالح للإقامة الوجودية والسكنى في جناح بيت من الشِّعر، فهذا ما يفضي إلى تهديد يتبادر من كون اللغة -كالمكان- قابلةً للنهب والتشويه والاجتياح، أي قابلة للاحتلال الأجنبي. بل يكفي أن تكون اللغة نفسها (كشرط سياسي للسيادة والاستقلال) سببا وميدانا للحرب. وربما حدث في مناسبات تاريخية مسطورة أن سقطت اللغة القومية رهن الاحتلال قبل أن تسقط الأرض والمطارات والمنشآت العسكرية.

لطالما تساءلتُ مع الشعراء الأوكرانيين اليوم عن اللغة والسيادة بينما أنا في قاعة المحاضرات بالجامعة أو في مستشفى خاص أو في واحد من تلك المطاعم الأجنبية الأسماء والتي تزدحم بها ضواحي العاصمة مسقط كحال سائر مدن العالم العربي. فماذا يعني أن تكون العلامات التجارية البرَّاقة وواجهات المحلات التي تضيء شوارع بطولها مشغولةً بأحرُف وكلمات إنجليزية في قلب عاصمة عربية؟ ماذا يعني أن تمتلئ المقاعد في قاعة المحاضرات بوجوه عربية وأن يكون مدرس المادة عربيا في حين تحلُّ اللغة الإنجليزية وتحول بيننا كوسيط لغوي نتبادله حتى نبلغ الضفة الأخرى من المعنى العلمي؟ ما زلتُ أدرِّب نفسي على التعامل مع إجابة بعينها؛ وهي «الاغتراب اللغوي» مهما كان هذا الاغتراب محصورا في مناطق محددة من الإقليم العام للغة الأم، أي كأن نتحدث هنا عن بيت كبير (سأعود دائما للحديث عن البيت في علاقتي باللغة) تسكنه عائلة تتحدث العربية غير أن بعض غرفه المهمة مُؤجرةٌ لغرباء مقيمين يتحدثون بلغة أخرى.

لم أختبر لغتي العربية يوما في أي منفى لغوي ومكاني بالمعنى الحقيقي، ولم يسبق لي أن نزلتُ بعربيتي ضيفا على لغة أخرى. لكنني وأنا في منفاي اللغوي المغلق الصغير، المحدود بفضاء قاعة المحاضرات، أتذكر سنان أنطون على سبيل المثال، الشاعر والروائي العراقي المقيم في اللغة العربية كتابيا رغم وجوده الحيوي في منفاه اللغوي والمكاني الشاسع بالولايات المتحدة. تذكرته وهو يدلي بإجابته المتشعبة عن سؤال صديقه المنفي حديثا إلى نيويورك: «لماذا لا تكتب رواياتك بالإنجليزية مباشرة»؟ (2) كان هذا السؤال مدخلا لمداخلة سنان في ملتقى «الكتابة في المنفى» الذي عُقد في برلين قبل سنوات. وللسؤال كما هو مطروح أكثر من وجه، تتعدد مداخله ومخارجه تبعا لهوية الأديب الذي يتعرض لمداهمة منطقية كهذه تعيده للتفكير في الجذور الأولى للغته الأم مهما كانت. كما تتنوع الإجابات على هذا السؤال وتتعقد في ظل ارتفاع معدلات الهجرة خارج حدود الوطن العربي الكبير وتزايد عدد الكتَّاب والشعراء العرب المنفيين في أقاليم اللغتين الإنجليزية والفرنسية.

لكن إجابة سنان أنطون الطويلة تخرج متألقة من رحم فكرة قديمة تقول إن «اللغة هي البيت» وهي العبارة التي يمكن تعليقها على مدخل الدار كشعار شعري يتحالف مع فلسفة الألماني مارتن هايدغر حول الوشائج العميقة بين اللغة والكينونة. فاللغة لدى سنان هي البيت المسكون بضجيج الأحياء والأموات الذين لا يتكلمون إلا بلغتهم الأم: «الشخصيات التي تعاودني أطيافها وأشباحها، والتي أرغب في تقمُّصها، تفكِّر بالعربية وتتحدَّث محكيتها البغدادية أو الموصليَّة. طوابير الموتى والأحياء الذين يريدون ألا تموت حكاياتهم والذين أحاورهم بصمت يتحدّثون العربيّة دائما». وبصرف النظر عن تفحُّص الخلفيات الأخلاقية والمبدئية لهذا الموقف الملتزم بالعربية، بعيدا عن سمائها الأولى وتراب تكوُّنها المحلي، فإن هذه الإجابة التي تتنازعها فطرة الشعر وهوية السرد تجعلني أتوثَّق أكثر فأكثر من اعتقاد شخصي قديم قد يبدو متطرفا شيئا ما؛ وهو أن الشاعر لا يُتاح له أن يكون شاعرا إلا بلسان وحبر لغة واحدة، وهي اللغة التي يحلُم بها آناء النوم واليقظة، بلا شك.

الهوامش:

(1) عن الأوكرانية والروسية ولغة الحرب، إيليا كاميينسكي، ت: أحمد شافعي، جريدة عمان.

(2) اللغة هي البيت، سنان أنطون، موقع جدلية.

سالم الرحبي شاعر وكاتب