الرجل الذي يصور كل شيء

23 سبتمبر 2023
23 سبتمبر 2023

أقرأُ باستمتاع هذه الأيام رواية اللبناني ربيع جابر «بيروت مدينة العالم» وأبحث عن الغائب من هذه المدينة البحرية في وعيي المتأخر كقارئ عربي بعيد يحلم بزيارتها لأول مرة، أبحث عن بيروت في القرن التاسع عشر، عن «الزمن القديم النائم في الحجارة» الشاهدة على العقود الأخيرة من ذكريات السلطنة العثمانية.

أقرأ مأخوذًا بفتنة السرد الذي يبدأ من استعادة الروائي لحديثه مع الكونت سليمان دي بسترس عن «حارة البارودي» قبل سنوات قليلة من أفولها، وأفكر بأن أجمل ما يمكنه أن يساعدني في التواصل مع هذه الكتابة الساردة، الكتابة التي تُذيب سيرة الأشخاص في سيرة المكان وتذيب سيرة المكان في سيرورة النص، هو أن أخلِّل أجواء القراءة بمشاهدة مجموعة من الأفلام اللبنانية ذات الطابع المستقل، التي تعرضها منصة نتفليكس عن مدينة بيروت، أو بالأحرى عن حكايات أشخاص وعائلات لبنانية تنتمي إلى هذه المدينة في مراحل معينة من تاريخها، حتى وقعتُ على فيلم «ميراث» للمخرج اللبناني الفرنسي فيليب عرقتنجي.

«ميراث» فيلم يزاوج بين الأسلوب الروائي والوثائقي، بين الأداء التمثيلي وسرد العائلة التاريخي، يحكي سيرة الرحيل عن الوطن الأم واللغة الأم خلال قرن كامل تقريبا من أرشيف عائلة مسيحية، هي عائلة فيليب عرقتنجي الذي يجد نفسه في الأيام الأولى من حرب تموز عام 2006 مضطرًا لمغادرة لبنان للمرة الثالثة في حياته، هاربًا هذه المرة مع زوجته وأطفاله إلى فرنسا التي سيمكثون فيها حتى عام 2010.

على متن السفينة «ليرا بيترا» يتصفح فيليب جواز سفره اللبناني فيُطالع عشرين خِتمًا قُبرصيًا؛ عشرون مرة يغادر وطنه إلى قبرص بحرًا.

يتذكر في عرض البحر نحو المنفى حكايات جدته التي دفعها الخوف مطلع القرن العشرين، إلى الهروب من موطنها، تركيا... الخوف من تهديدات القوميين الأتراك الساخطين على العائلات المسيحية التي وقفت تستقبل بحفاوة وترحيب الجيش الفرنسي في قيليقية، منشدةً النشيد الفرنسي مع الجنود الجدد الهابطين من السفن العسكرية.

ستدور وتدور الرحى في دولاب التاريخ الدائري جاعلةً من حالة الرحيل والمنفى المحلي والخارجي جزءًا طبيعيًا من الهوية الوطنية اللبنانية التي يعيشها إنسان ذلك المكان الملغوم، جغرافيًا وتاريخيا واجتماعيًا، بكل أسباب الحرب وكوامنها، ولذا يمكننا أن نصف الحرب في تاريخ لبنان الحديث بأنها حدث موسمي.

في فيلم «همسات» الذي أخرجه مارون البغدادي عام 1980، تتنقل الشاعرة اللبنانية ناديا تويني بين خرائب الحرب في لبنان الذي تصفه بالوطن المجنون؛ وطن يضحك وهو ينفجر، يرقص وهو ينزف، ويغني وهو يحترق، وفي فيلمه هذا، ميراث، سيقتبس فيليب عرقتنجي من ناديا تويني مقولتها: «البلد ينتحر، في حين يغتالوه».

فيليب عرقتنجي هو الرجل الذي يصور كل شيء وأي شيء قد يصادفه، مهما كان صغيرًا وهامشيًا لا يرقى لمعنى الذكرى لحظة القبض عليه في عدسة الكاميرا، ولكن على أمل أن تكون تلك الأشياء الهامشية الصغيرة مادة لحكاية يمكنه أن يسردها لأطفاله وللناس فيما بعد، حينما تهدأ الحرب ويحلُّ النسيان.

يصور فيليب كل شيء لأنه يخاف على كل شيء، يخاف من النسيان والغياب ومن أشباح الذاكرة القصيرة، ويخاف على طفولته المهجورة المُهجَّرة قسرًا عن شوارع بيروت، «شوارع الحرب اليومية» كما تغني أميمة الخليل.

ولكن ما الطفولة وما الحرب؟ وكيف يمكن الجمع بين الماء والنار، بين الألعاب والأسلحة في درج واحد؟ قد تبدو الطفولة والحرب كلمتين توحيان بالتنافر في اللغة، تبدوان وكأن لا صلة أو وجهًا للمقاربة بين حقليهما الدلاليين في المعجم، ولكن هذا التناقض اللغوي لا يمنع الكلمات المتنافرة في المعجم من أن تخرج عن معانيها قليلًا لتتحاور في الحياة، في حياتنا التي تدور علينا كالخلَّاط الذي يخلط المتناقضات في بعضها.

لم أعش حربًا في طفولتي كما عاش واكتوى بها ملايين الأطفال حول العالم، لكنني عشت الحرب طفلًا في التلفزيون، في الأفلام والروايات، عشتها ومارستها في ألعاب الفيديو وفي الألعاب الفردية التي أنسجها في مخيلتي، وهناك أحببتها ربما. ولم أكن لأصدق أن البطولة تحدث بدون الحرب، كانت البطولة دائمًا بالنسبة لي بحاجة إلى الحرب حتى تتمثل.

تذكرتُ ألعاب الحرب في مشهد يفرغ فيه فيليب أدراج لعبه أمام أطفاله، لكن مقتنيات طفولته التي حرص على تجميعها وصيانتها بالهوس نفسه الذي يصور به كل شيء، لم تكن سوى خردة حرب، حرب حقيقية.

قد يتمنى الابن المُحب، الابن المولع بأبيه، لو يستطيع العودة بالزمن إلى الوراء حتى يعيش طفولته في طفولة أبيه، حتى يتقمص أحلامه. لكن طفولة ذلك الأب، ميراثه الكنز، ليست جميلة دائمًا، ليست الزمن المفقود الذي يبحث الأبناء عنه لو أنهم عرفوه على حقيقته، ولذلك يصور فيليب عرقتنجي كل شيء حتى يمارس بقوة الفن التوثيقي دوره كشاهد حي على هويته وعلى زمن لا يريده أن يتكرر في حياة أبنائه، فالتاريخ لا يعيد نفسه كما سلمنا دائمًا؛ بل من يعيده هو الإنسان نفسه، الإنسان الذي فاتته الحكاية.

سالم الرحبي شاعر وكاتب