الحياة مع وقف التنفيذ

03 أكتوبر 2023
03 أكتوبر 2023

تعيد الكتابة إليّ فرصة موضعة نفسي من جديد داخل الزمن، كما لو أن الأشياء لن تحدث إذا توقفتْ هذه الكتابة، هذا بالنسبة للأشياء أما بالنسبة لي أنا فهل سأحدث؟ يصعب تحديد ذلك بصورة تلقائية، قد يكون الجسد موجودًا، لكنه يعتمد على وجوده، على زمن حلمي يتحرك فيه، إنه يرغب دائمًا في أن يتواشج مع المعنى، أو يمكن أن نقول الجدوى، وفي حالات عديدة قد ينفصل عنه، لا يخلق هذا حالة من الاغتراب كما نظن في العادة، إذ إن في الاغتراب شيئا حارقا وضارا، إنه معنى بطريقة ما، ويمكن أن يملأ المرء إلى آخره؛ حتى لا يعود بحاجة ليسأل نفسه أسئلة كهذه. تلك الحالة أحبُ تسميتها بـ«الانطفاء» التام. أشعر بأن جسدي غير محدود ويتمدد، كما لو كانت أعضائي مرسلة في الهواء أكثر منها موجودة وراهنة، من لحم وعظم ودماء، وكذا بالنسبة لمشاعري، إنها تطفو في هذا اللاشيء المرسل، تتوزع بتبطل على السطح، تطفو ولا يعود فيها أي شيء يخز!

يميل الناس لإعادة أنفسهم لقلب الحياة في حالة كهذه عبر نشاطات عديدة، بعضهم يؤذون أنفسهم حتى يتمكنوا من لمّ شتاتهم، وإعادة وجودهم إلى نقطة واحدة، مركز واحد، يمكنهم توجيه اللوم عليه أو تشجيعه أو إعادة شحذه، وتقريعه أو النظر إليه بصبر. في حالتي أنتظرُ الكتابة ليحدث هذا كله، الكتابة تؤلفني، «تمركزني» في الداخل، وترصفُ للكثافة طريقًا يُمّكن من استعادتي.

إن ما يحدث إذن ليس الخلق، ولا الاختراع، إنما الاستعادة، وبهذا تكون الكتابة فعلا ماضيا باستمرار، ماضيا يلقي بنا في الحاضر، حاضر لا يمكن أن يتحقق بأي شكل من الأشكال ما لم تكن الكتابة هناك تؤسسُ من أجله.

حسنا، ما الذي يحول دون الكتابة وهي تفعل هذا؟ ما الذي يوقفها؟ أفكرُ في هذا كثيرا، وفي كل مرة يكون لديّ تنويعة مختلفة من الإجابات، أقربها لنفسي الآن هي العيش الفعلي في الحياة. أعرف كم تبدو كلمة «الفعلي» «كيتش» مثل: طبيعي، بديهي، عادي، تلقائي... إلخ. لكن يمكن أن أفسر مقصدي بالإشارة إلى أننا ندور في «حلقة هامستر». كلاهما الكتابة وتوافر الحياة يدفعان بعضهما بعضا.

تقول لي صديقتي إنها تهرب من الكتابة. وأعرف جيدا أنها تهرب من الحياة أيضا، وتعيش على فتات الزوايا الصغيرة غير المشبعة، ذلك أن في الإقبال على قلب المكان إنهاك ونهم مؤذٍ وسعي محموم، وتجاور مع الخطر، ومع حرارة الوجود والتحقق، لذا من الأسهل حتى وإن كان لبعض الوقت أن نلتزم بهامش الفراغ لا الفراغ نفسه حتى.

الكتابة في جوهرها مناورة، والحياة في جوهرها مناورة أيضا، كلاهما قادم من الطبيعة نفسها، كلاهما كلما كان مترددا ومرتبكا حقق الوصول نفسه، ومتى ما امتلأت الكتابة مثل الحياة بالشك، بمحاولة الرؤية بدلا من التحديق فحسب، كانا على قدر عال من التكافؤ.

عندما أغادر البناية التي أسكن فيها، أشاهد بجانب الباب نبتة أراها للمرة الأول، ويتبادر إلى ذهني سؤال، هل كانت هنالك كل هذا الوقت؟ كل هذه سنوات الثلاث التي قضيتها هنا في هذه البناية ولا ألاحظها إلا بعد كل هذا الوقت رغم وجودها في مكان أساسي جدا ومدخل رئيسي أعبره في اليوم مرات ومرات؟ أم أنها توضع هنا للمرة الأولى! أشك في ذلك؛ لأنه وفي هذا الوقت من العام يستحيل في العادة إجراء تغييرات على المكان وصيانته. أنا إذن من كنتُ مطفأة لوقت ليس قصيرا كما هو واضح.

تكتب الشاعرة اللبنانية الراحلة «عناية جابر» في مجموعتها الشعرية الفاتنة «ساتان أبيض» سؤال يقارب ما كنت أحاول قوله منذ بداية هذا المقال في قصيدة بعنوان «سؤال»:

«دون أضلاع

ولا وخز مؤلم

مثل السماء

أنتشر وحيدة

لماذا لا يكون

عذابا واضحا»