الأحوال.. في لغة القرآن

27 مارس 2023
27 مارس 2023

القرآن.. تنزيل إلهي، له نظمه الخاص؛ يقوم على أساس الهداية إلى الله. وقد أُنزل (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) «الشعراء:195»، سما به روحه الإلهي ومقصده الرسالي على كل بيان أرضي ضيّق المعنى والمقصد، ومعماره البياني الميسَّر لا يضطر قارئه إلى تأويل آياته، وإنما عليه أن يرجع بأحكامه إلى محكماته. وقد تحدثت عن التأويل في القرآن في كتابي «السياسة بالدين» وغيره، ومما ذهبت إليه أن التأويل أساسا ظاهرة لغوية، لا ترسي النص على دلالة ثابتة، فكل تأويل يقابله تأويل، ولذلك؛ أرجع القرآن تأويله لله وحده، وعلى المؤمنين أن يسلّموا بأن التنزيل كله من عنده، وألا يتبعوا متشابهه ابتغاء تأويله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) «آل عمران:7»، وهذا موضوع له مقال خاص، وحديثي هنا عمّا أسميه بـ «الأحوال»، التي تكشف عن جانب من معاني القرآن، لعلها تسهم في إيجاد البديل عن ظاهرة التأويل.

أهل اللغة.. يقسّمون الكلام إلى اسم وفعل وحرف، فالاسم.. ما دل على معنى في نفسه دون اقترانه بزمن. والفعل.. ما دل على معنى في نفسه واقترن بزمن. والحروف.. روابط بينهما، لا معنى لها من دونهما. إن كثيرا مما يستعمله القرآن بهذه الصيغ هو في نظمه المحكم -البيّن بنفسه- تعبير عن حالة يعيشها الإنسان؛ نفسيا واجتماعيا، بل تشكل شبكة من العلاقات الإنسانية، لا تنفصم عراها، وهو ما أسميه بالأحوال. وأما تقسيم اللغويين فلا يعدو التوصيف؛ الذي يحتاج إلى تأويل وإيضاح.

المقال.. لا يأتي بأمر مبتدع، بل يبني على ما استظهره البيانيون في دراستهم لدلالات النص، والمفسرون من استلهامهم للبيان القرآني الرفيع. لكن كثيرا من تلك الدراسات غرقت في بحورها العلمية، وربما انحازت لمعتقداتها الأيديولوجية. وإنما هنا ألفت النظر في سياق ما انتهجته من محاولة فهم القرآن من خلال لغته وبمقصد رسالته، لا بغرض يقحم عليه.

يقول الله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) «البقرة:16»، ليست ثمة: ضلالة وهدى وتجارة؛ بمعنى الاسم، فهي أمور غير متشخصة ولا ثابتة، بل هي أقرب إلى الأفعال، وما هي بأفعال، بل أمور دائبة الحركة، يعيشها الإنسان المبتلى بها، فأنت لا يكاد تستطيع أن تحدد «الضلالة» التي تصدر منه، فهي حالة استمرأتها نفسه ورانت على قلبه، فلم يعد يشعر بها، ولا يهتدي سبيلاً للخروج منها، وهي حالة متلبسة بعصبه، يدفعه دفعا لممارستها. ولذا؛ لا يمكننا «تشخيص التجارة» التي تدير عملية شراء الضلالة بالهدى، بل ندرك الأحوال التي تصدر من أصحابها. نعم؛ نرى عمليات البيع والشراء والربح والخسارة بين الناس في معاملاتهم، لكن نكتفي بمعرفة صفتها، دون أن ننظر ما خلفها. أما الأحوال فهي شبكة من العلاقات التي تجري في نفس من يتلبّس بها، ومن خلفه أطراف وعلائق لا تكاد تحصى، بحيث تصبح حالة نفسية اجتماعية، لا يمكن أن تكتفي بالنظر إلى ظاهرها، وإنما عليك أن تتأمل دواخلها؛ من الدوافع المباشرة وغير المباشرة والمآلات الظاهرة والخفية.

يقول الله: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ، وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) «الأعراف:46-48».

«الأعراف».. ليست مكانا يقف عليه «رجال»، كما تذهب إليه كتب التفسير، وإنما هي حالة يتلبس بها «رجال». و«على».. ليس مجرد حرف جر يفيد العلو المكاني، وإنما هو حالة تدل على الارتفاع، فيصبح «الرجال» في حالة مرتفعة عن الجنة والنار، تشاهد «أبصارهم» أحوال الفريقين، وهي من التمكن بحيث تعرف كليهما، و «الرجال».. لا يمكن وصفهم بأنهم ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم، كما يذهب بعض أهل التفسير، بل ولا بمعنى الذكورة، فالإناث أيضاً يمكن أن تتساوى حسناتهن وسيئاتهن، على أن من مات ظالما فمصيره النار، ومن مات محسنا فمصيره الجنة، فليست ثمة منطقة مكانية يحبس بها «أصحاب الأعراف». هي حالة يقصّها الله علينا بمن أسماهم «أصحاب الأعراف»، كاشفة عن هول الموقف الذي ينقسم فيه الناس فريقين: فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير. ولا يكتمل مشهد «حالة أصحاب الأعراف» إلا عندما نقرأ الآيات في سياقها الكلي، ودلالاته الكاشفة عن مشهد يوم القيامة العظيم، ببيان إلهي لا يضاهيه بيان. ولتتضح الحالة علينا أن نستحضر قوله: (رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)، (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ)، فـ «يعرف».. ليس فعلا مضارعا فحسب، وإنما حالة يتمتع بها «أصحاب الأعراف»، يكشف الله لهم بها سيما أهل الجنة وأهل النار، فـ «أبصارهم تصرف»؛ أي أنهم يستحضرون الفريقين بكل ما لهم من سمات وصفات وعلائق.

إن من التقصير في حق لغة القرآن أن نحبسها في تقعيد أهل اللغة، دون أن نلحظ الروح الأعلى الذي نقل الله به الكلام من «التوصيف إلى الأحوال»، لننظر إلى الآيات الآتية حتى يتضح جمال اللسان القرآني: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) «لقمان:27-30». «كلمات الله».. في نظمها القرآني تختلف تماما عنها في الكلام البشري، فالبشر.. يتكلمون بأوصاف ذات أسماء وأفعال وحروف، أما الله فيكشف بكلامه عن أحوال الناس، فالكلمة البشرية تتحمل معنى أو عدة معانٍ، أو تأول بسياقات مختلفة. أما «كلمات الله» فهي أحوال يمر بها الخلق؛ دنيا وأخرى، لا تكييف لها ولا حدود عند البشر، ومع ذلك هي بيّنة بنفسها.

فالله نفسه.. لا يمكن تشخيصه، فهو غير مُدرَك في ذاته: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) «الأنعام:103»، فالعلاقة بين الله والناس هي أيضا حالة لا يمكن توصيفها، فالأبصار.. هنا ليست العيون ذات الأحداق، وإنما «حالة من الإبصار»، تدرك كثيرا من آلاء الله، في تفاوت بينها بحسب طبيعة صاحبها، وكل الأحوال يدركها الله وهي لا تدركه.

فالنفس -بحسب الاسمية- نراها تُخلَق متفاوتة ومتباعدة زمانا ومكانا بعمليات ميكانيكية باردة، أما بحسب واقع «الحال» فهي عند الله؛ خلقا وبعثا كنفس واحدة، تحكمها سنن إلهية حية تسيّر هذا الوجود بأسره، ولذلك جاء ربطها بالكون. والليل والنهار والولوج فيما بينهما.. هي أكثر من توصيف بأسماء وأفعال وحروف، فلا شيء من ذلك خارج الحالة التي نعيشها نحن البشر، إنها أحوال حياة ذات وشائج متآصرة؛ ليست في لحظة معينة؛ وإنما ولوج دائم تنتج عنه الحياة باستمرار، وبالمختصر؛ حالة قائمة (إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً). و«الله».. ليس اسما كأسمائنا، بل هو «الحق» وما دونه «الباطل».

وصفوة القول: إن علينا أن نتحرر من ذلك التقعيد -أو بالأحرى التقييد- اللغوي عندما نتدبر القرآن، وأن نعود بآياته إليه، فالروح الإلهي المنبث في نفوسنا هو الذي نزل بالقرآن، وهو ما ينبغي أن يلهمنا فهمه، ويسلكنا في العمل بمنهجه.