أنساغ.. "لا تجعلوني عبرة مرتين"

27 نوفمبر 2022
27 نوفمبر 2022

(1)

صرنا نعلم الآن أن الرسالة الوحيدة التي كتبها كافكا إلى أبيه لم تصله (والبعض سعيد، والبعض آسف، لذلك). وكافكا، في أية حال، لم يكن مضطراً لأن يبعث تلك الرسالة من مكتب البريد كما فعل أحدهم ممن أعرف، بل أعطاها إلى أمِّه كي توصلها لأبيه. لكن الأم لم تفعل بالنظر لمعرفتها الوطيدة بالتوترات الكثيرة في علاقة كافكا بأبيه، وخشيتها من تفجُّرات وتأزُّمات أكثر في تلك الشّقة الصغيرة المتشنِّجة مثل قنبلة موقوتة يقيم فيها الجميع حتى إشعار آخر، بمن في ذلك -- بل على رأسهم -- "المسخ" (والصدى الموسيقي الصريح للغاية بين اسم الشخصيَّة واسم كاتبها لا تخطئه الأذن النبيهة: غريغوري سامسا/ فرانز كافكا). ويقال أيضاً إن الأم تجرأت وقرأت الرسالة فجزعت وهلعت، وقررت إخفاءها حفاظاً على ما يمكن الحفاظ عليه قبل اندلاق الكارثة بصورة نهائيَّة.

لكن الرسالة، في نهاية مطافها وتخفيها، صارت وثيقة أدبيَّة وتاريخيَّة في غاية الأهمية، وهي متاحة اليوم، ومعروفة للجميع، ومترجمة إلى كافة لغات المعمورة تقريباً، وتبدأ هكذا: "أبي العزيز: لقد سألتني مؤخراً لماذا أنا مصِرٌّ على الخوف منك".

يا للسؤال البسيط والعبقري! كيف؟ لقد وضع السؤال الأب في أسوأ موقف ممكن لأن أي إجابة سيقدمها ستكون أصغر من السؤال الذي يتمدد في تيار الاسترسال، بينما الجواب، كائناً ما كان، عليه أن يظل منكمشاً في زاوية الاتقاء، والمداراة، والدفاع البائس. وفي ذلك الوضع غير المحسود وغير المأسوف عليه معاً فإن على الأب أن يبقى كما هو: كريهاً، وناقصاً، وبغيضاً، وعاجزاً، ومقيتاً بإمكانيَّةٍ حدُّها الأقصى التَّلقِّي فحسب.

(2)

من مشاكل "السرد الوطني"، أو "تاريخ الأمة"، أو "سيرة البلاد"، أو "مآثر الأبطال"، إلخ من التسميات التي تشاء، هو إغفال دور الباحثين "العاديِّين" عن الكرامة من الذين انضموا إلى ساح الوغى العظيمة من أجل الرغيف من دون أن يعلموا إلى أين ستتجه الأمور: ما قام به المحارِب زيد في صفوف هذه الجيش، وما فعله الجندي عمرو في ذلك الصف.

الآن، اتفقت السَّرديتان على تخريجة تزويقيَّة أو أكثر ( يُفتَرَض أن تكون "مضيئة" و"مُشَرِّفة") للقصة التي تُقَدَّم للأجيال: لقد كان ذلك اجتهاداً شاقاً بين طرفين متناقضين من أجل معرفة وتعريف مفردة "الوطن".

لكن مشكلة "السرد الوطني" (في الجهتين، إن لم يكن في أربع جهات الأرض) هو أنه يتغاضى، بصورة فيها الكثير من الريب، عن أن زيداً هو شقيق عمرو، وقد قَتَلَ الأول الثاني، أو اغتال الثاني الأول، في حرب لم يكن لهما فيها ناقة ولا جمل، ولا حتى تذكار.

لقد قَتل وقُتل الجميع لأجل سرديَّة ناقصة ومنقوصة اسمها "الوطن" الذي وقوده الناس، والحجارة، والسَّرديَّات.

(3)

كلما ارتكب بشاعة جديدة قلنا لأنفسنا إنه لا يستطيع أن يكون بشعاً أكثر من ذلك فقد بلغ الدرك الأسفل. لكنه يتمكن. دوماً يتمكن، وفي كل مرة سيتمكن.

(4)

جاء الأبالسة بالأبالسة، وسوف يأتي الشياطين بالشياطين، ونحن لا نزال في انتظار اليقين.

(5)

الذي حياته طبيعيَّة وجيَّدة سيكتب أيضاً، وسيسقي الشجرة في عيد الشجرة، وسيكذب حتى في الأول من إبريل في كل عام، وسوف يخدم الوطن بصورة طبيعيَّة وجيدة أيضاً.

حسن جداً، لكن ما الذي يعنيك أنت في ذلك؟

(6)

تمسِّد شعر ابنها الصغير

بيدها الأخرى تناول زوجها فنجان قهوة

والقمر ينظر إليَّ من آخر البحار.

(7)

لا يحق للمرء أن يكون له أصدقاء قبل أن يكون له أعداء.

(8)

لا تشكر الوهم لمجرد أنه تداعى قبل أن تفيق.

(9)

شيء فظيع حقَّاً ألا يكون لك أم، أليس كذلك؟

لكن هناك ما هو أفظع: يطالبك الشِّعر بألا تكون لك أم.

(10)

وقفتُ مرة عند قبر واحد من الشعراء الأمريكان/الكونيِّين الأثيرين لديَّ: قبر إدغَر ألن بو في بالتيمور. وكنت، قبل الزيارة، أتهيَّب وأتحوَّط من الحالة الوجديَّة والروحيَّة التي لا بد أنها ستنتابني وأنا عند ثراه. لكني، في الحقيقة، لم أشعر بغير البلادة، والغباء، واللاشيء، وعدم التأهل لأن أكون مجوسيَّاً أو وثنيَّاً. اكتفيت فحسب بسقي الأعشاب والزهور المحيطة بقبره (وهذا، في أية حال، لم يخفف من شعوري بالبلادة).

تساءلت بيني وبين نفسي: أحقاً يرقد بو هنا؟ كلا، ما يستريح هنا عظام رميم. أما الشيء/ الشخص الذي نعرفه باسم "إدغر ألن بو" فهو من كتبَ قصيدة "الغراب"، والقصة القصيرة "القط الأسود" (ضمن نصوص أخرى كثيرة). وهو أيضاً ذلك الشبح الذي لا يزال يتهادى مترنحاً بين الحانات في آخر الليل قبل أن يُعثَر عليه فاقد الوعي في الطريق. وحين أفاق في المستشفى قال له الطبيب الذي عرف أن مريضه هو أعظم شاعر أمريكي في عصره إنه يتمنى له الشفاء القريب "لكي تستمع بصحبة أصدقائك"، رد عليه بو بما ستتذكره الأيام، والليالي، والأوجاع، والأشعار: "إن أفضل ما يمكن أن يفعله أفضل صديق لي هو أن يفجِّر دماغي بمسدَّس"، ثم ذهب إلى الأبديَّة. ذلك هو بو الذي يعرفه التاريخ، أما ما في القبر فشيء لا يعنيني كثيراً.

في الوقوف على قبور الأمهات، والأصدقاء، والشعراء، والرفاق، إلخ، يصير المرء، بصورةٍ ما، وعلى الرغم من أنفه، سائحاً عابراً أو جامعاً للتذكارات والتُّحف مهما تريَّث، أو تأمَّل، أو أوغل في الفقد. إنه يتورط بصورة صريحة (تقريباً) في "الانجذاب المَرضي نحو الجثث" (necrophilia).

بصورة من الصُّور:

"وكان جرحي عندهم معرِضاً

لسائحٍ يعشق جمع الصُّور

[...]

أيُّوب صاح اليوم ملء السماء

لا تجعلوني عبرة مرتين" (محمود درويش، "جواز سفر").