أدبٌ يشفي من الهجر

21 سبتمبر 2021
21 سبتمبر 2021

قد يبدو ضربا من الجنون، أو الإمعان في البعد عن الواقع، إذا ما وجدتَ أن العلاج يتمثل في قراءة عمل أدبي ونصحتَ به الآخرين، فأنت تشير بهذه الطريقة لاختلالك حسب معايير العالم الذي نعيش فيه، فكيف يمكن لعمل أدبي أن يشفي، وأن يصالح المرء مع ظروفه المنهكة والعصية على التغيير. لكنني وجدتُ لديّ الشجاعة والجرأة الكافيتين للاستشهاد بعمل أدبي في محادثات صعبة كنت أخوضها مع أشخاص لا يقرأون، كان لديّ ذلك الإيمان العميق بأن الحل يكمن في قراءة هذا العمل والتفكير بعده. إنه "أيام الهجران" للكاتبة الإيطالية المجهولة حتى كتابة هذه المقالة "ايلينا فيرانتي".

حدثتني صديقتان في مناسبتين منفصلتين عن نساء هُجرن، انفصلن عن أزواجهن بعد معاناة شديدة، يجمع بين هذين المرأتين الشعور بقيمة عند الزوج لم يكن يمتلكها أصلا في فترة العلاقة، من أين جاء الشعور بأنه يمتلكها إذن بعد نهاية العلاقة؟ ولماذا تبدو خسارتهن فادحة على الرغم من التجربة الصعبة التي قاستها المرأتان أثناء العلاقة، وبدلا من الشعور بالخلاص، وحل المسألة مع الانفصال، التقهقر نحو مناطق قاتمة من الألم، والشعور بالرغبة في العودة للواقع الذي تمنين الخروج منه سالمات.

لا يمكنني التحدث عن هذا الموضوع دون أن يخطر لي على الفور عمل آني ارنو الصغير والعذب "الاحتلال" فعلى الرغم من قراءة هذا العمل قبل ما يزيد على ٦ سنوات، إلا أنني أتذكر ذلك التفصيل الصغير، عندما يصعب على المرأة أن تفكر بأن طليقها الذي تركته بمحض إرادتها هي، يعيش حياة عاطفية وحميمة مع امرأة أخرى، فتقرر ملاحقته، تحتلها الغيرة وتحطمها، فلنتأمل معاً أنها هي التي قررت تركه!

يعجبني في عصر الثقافة السائلة هذا، واستهلاك كل شيء الوقوف عند تعقيد الأمور والمشاعر الإنسانية، كما هي عليه في الواقع، في صورتها الخام، قبل أن تتعرض هذه الصورة للتحفيز من أجل التعامل بعملية وبرضا منفلت وغير محدود مع تجاربنا القاسية والتي تطبع نفسها لا على زمنها الذي تحدث فيه فحسب، بل إلى أن نموت في كثير من الأحيان، إذن ما الذي تقوله هذه الأعمال الأدبية، أن التجاوز والتخلي والمضي قدما ليست خيارا متاحا بالضرورة، وأننا قد نصبح عالقين وعالقات في أزمات، تبدو بالنسبة للآخرين، ساذجة أو علامة على ضعفنا وهشاشتنا، وقابليتنا المستمرة لأن يدفع بنا إلى الهاوية.

تجد الشخصية الرئيسية في رواية "أيام الهجران" نفسها صريعة حال من الصدمة بعد أن هجرها زوجها ووالد ابنها وابنتها، من أجل فتاة صغيرة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، فتضطر للتعامل مع كل تعقيدات هذا الانفصال، ويتملكها شوق حارق من أجل أن يعود إليها زوجها، على الرغم من أنها تعرف جيداً أنها لم تكن سعيدة معه، ومن أنه رغم تضحياتها وكل ما قدمته لهذه العلاقة، تركها وحدها، لتعيش في دوامة من الأسئلة التي تفكك فيها ذاتها، هل هي جميلة؟ هل أحبها ذات يوم؟ منذ متى قرر هجرها؟ لمّ مع فتاة صغيرة؟ تراها لم تعد صالحة كامرأة؟

نقرأ في العمل عن هذه المرأة التي يتقدم ويتطور حزنها ونكرانها لذاتها طوال النص، حتى تصبح غير قادرة على تذكر الأشياء، فهل أطفئت النار بعد أن استخدمت الغلاية، هل تركت الباب مفتوحاً في المنزل عندما خرجت، في إحدى المشاهد تعلق مشبك ورق في كتفها، حتى يقرصها ويذكرها بالواقع وبأبنائها الذين يحتاجون إليها بالطبع، كما أنها تربي كلباً كان قد جلبه زوجها للبيت، حتى ينفق هذا الكلب ويموت وتفوح رائحته، ليصبح بمثابة استعارة لعلاقة الزوجين التي استحالت جثة هامدة ومؤذية وطاردة.

عندما اقترحتُ هذه الرواية على أختي لأنها تحب قراءة أعمال النساء، قالت لي: أمل لم اقترحتِ عليّ كل هذه الكآبة! اختنقت! بالضبط إن القراءة هي حالة من التقمص والانغماس في حالة الهجر هذه، وهي بالتأكيد لشخص قد هُجرَ حديثاً فرصة لينظر لما يمر به من الخارج، كما لو أنه يلقي نظرة على نفسه.

من هي فيرانتي، التي رسمت هذا التشابك كله، إنها كاتبة غير معروفة قالت في كتابة لها – لأن أحداً لم يرها – "أعتقد أن الكتب، بمجرد كتابتها، لا تحتاج إلى مؤلفيها، أحب كثيرًا تلك المجلدات الغامضة، القديمة والحديثة، التي ليس لها مؤلف محدد ولكنها كانت وما زالت تتمتع بحياة مكثفة خاصة بها. يبدو لي ذلك نوعًا من المعجزات. . . المعجزات الحقيقية هي تلك التي لن يُعرف صناعها أبداً. . . بالإضافة إلى ذلك ، أليس صحيحًا أن الترويج مكلف؟ سأكون المؤلف الأقل تكلفة في دار النشر. سأوفر حتى وجودي"

في مراجعة للناقد جيمس وود عن رواية فيرانتي "أيام الهجران" يكتب عن التكثيف والعنف في رواياتها عموماً ومثل معظم أعمالها فإن أولغا الشخصية الرئيسية في هذه الرواية كاتبة، تعتمد في عملها هذا مثل بقية أعمالها وبشكل صادم على صورة الأمومة، الرغبة وعدم الرغبة في الأطفال، ملل الجنس، النفور الجسدي، كفاح الراوي اليائس للاحتفاظ بهوية متماسكة في مؤسسة الأسرة. كما تعد هذه الرواية الأكثر قراءة باللغة الإنجليزية. " أولغا تبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا، وهي متزوجة من ماريو وتعيش في تورينو ولديها طفلان ، إيلاريا وجياني. "بعد ظهر أحد أيام أبريل، بعد الغداء مباشرة ، أعلن زوجي أنه سيتركني". الجملة الافتتاحية الهادئة تواري الغضب والاضطراب القادم" شعرت أولغا بالتهديد بالسقوط، فما الذي تعنيه حياتها بدون الوحدة الأسرية؟ صُدمت أولغا بـ "الحزن المبهرج للغاية"، وهي يائسة، في هجرها الخاص ألا تتصرف مثل جارة قديمة من طفولتها عندما هُجرت، وألا "تلتهمها الدموع". بحسب جيمس وود فإن فيرانتي تنجح في تحويل البؤس المنزلي العادي إلى جحيم تعبيري.

يعتبر وود أن روايات فيرانتي مثالا للموجة النسوية الثانية وإن جاءت متأخرة، والتي ركزت على البيت بصفته شِركا للنساء إلا أن أعمالها تذهب لشيء أبعد من الأدلجة، بالطريقة التي تعالج بها فيرانتي موضوعات الأمومة والأنوثة. ويكتب وود "يبدو أنها تستمتع بالفائض النفسي، الفظاعة، التعقيد الرهيب والفريد للدراما العائلية لأبطال روايتها. قد تبدو محنة أولغا مألوفة بما فيه الكفاية، لا سيما تخوفها من أنها أصبحت ملغية بلا حد ، في حين أن زوجها "الأكثر إنتاجية" قد ازدهر في العالم الخارجي".

إن هذه الرواية هي رحلة مظلمة في طريق الهجر، إنها يدُ صديق ممدوة أو أذن مصغية، وربما أكثر من ذلك، إنها صوت للمهجورين الذين لا يعرفون ما إن كان ما يختبرونه مفهوما ومعروفا بالنسبة للآخرين، وعلى الرغم من تزايد عنفها ووحشيتها، إلا أنها تذكر في آخر الأمر بما ذهب إليه أرسطو منذ قرون بكتابه "فن الشعر" في أن ذروة الفن تكمن في قدرته على "التطهير" فقد تتخلص من حزنك وآلامك ومخاوفك عندما تصل أولغا لهدوئها الراسخ مع الصفحات الأخيرة من هذا العمل أو قد تشعر ببعض العزاء.