عشرة وعشرة!
في إحدى الليالي رأى فيما يرى النائم أن شخصًا ذو ملامح تستريح لها العين وتسعد بها الروح يقترب منه ويحدثه هامسًا له: لقد تبقى من عمرك عشر سنوات، فقط عشر سنوات لا أكثر ولا أقل.
فأجابه والدهشة تملؤه قائلًا: أمتأكد أنت؟ رد عليه: نعم، هذا مؤكد لا لبس فيه ولا جدال، عشر سنوات تبدأ من الغد، فانظر إلى ما أنت فاعله. فاستغرب حديثه جدًا، وغاظته تلك الثقة التي يتحدث بها، فسأله مرة أخرى: أمتأكد أنت؟ من أبلغك؟ ولماذا عشرة بالضبط؟
وقبل أن يتلقى ردًا على أسئلته أفاق من نومه متعجبًا، وأخذ يفكر في موضوع تلك العشر سنوات، وأخذ يحدث نفسه متسائلًا: تُرى من هو هذا الرجل الطيب ذو السمت الصالح والطلعة البهية والكلام العجيب؟! وهل هذه رؤيا وإشارة من السماء أم هي مجرد أضغاث أحلام؟ وماذا يقصد بقوله: انظر ماذا أنت فاعله؟ تكاثرت الأسئلة في ذهنه، ولكنه لم يُبدِ اهتمامًا كبيرًا ظنًا منه أنها ربما تكون أضغاث أحلام، ولكنه في منامه الليلة التالية جاءه نفس الشخص ودار بينهما نفس الحوار، وانتهى حيث انتهى المرة السابقة، فأفاق من نومه متأثرًا مذهولًا، وحدث نفسه قائلًا: هل هي رسالة أم إشارة أم ماذا؟
وأصابته الحيرة طيلة يومه وبعضًا من مسائه، حتى غلبه النوم في الليلة الثالثة، فإذا به يرى نفس الرؤيا بذات الحوار، فانتفض من غفلته وتأكد أن الأمر رؤية حقّة، وأنها رسالة وإنذار، فانتابه الحزن وغشيه الغم، وأخذت أمواج من الفكر تتلاطم في عقله، خلّفت لديه إعصارًا من التساؤلات... هل حقًا لم يتبقَّ سوى عشر سنوات؟ وهل العمر قصير هكذا؟ لماذا إذن لم أشعر به؟ وكيف ستأتي النهاية؟ وفي ماذا قضيت عمري؟ يا ويلي، هل ضاع مني العمر؟
وبعد لُؤي هدأت نفسه وذهبت عنه السكرة، وجاءته الفكرة، فحدث نفسه قائلًا: نعم، إن للعمر نهاية طال أم قصر، والمؤمن الكَيِّس هو من وزن عمله قبل أن يُوزن عليه، ولعل هذه إشارة لي من رب العالمين لكي أُعِدَّ للرحيل أجمل الإعداد، وأُحسن خاتمتي بما يرضيه عني. ففرح وطابت نفسه، ثم انطلق يفكر مرة أخرى: ماذا أنا فاعل إذن؟ بالتأكيد سأطيع ربي، وسأجتهد ألّا أعصيه أبدًا، فالباقي قليل ولم يعد فيه مجال للزلل، ولكن تُرى ما هي أفضل الأعمال التي ستعين نفسي على حسن الخاتمة وطرق أبواب الجنة؟ أخذ يفكر قائلًا: سأصلي كل الفروض في وقتها، وسأكثر من صيامي ومن ذكر الله عز وجل، أما الزكاة والحج والصدقات فليس لي بابًا لها لفَقري وضيق ذات يدي. وتساءل بينه وبين نفسه: تُرى أي السبل أقرب للوصول لرضا ربي فيما له مثل دربي؟
وهنا تذكر أنه قرأ ذات مرة عن زبيدة بنت جعفر زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد، أنه بعد وفاتها رأتها صديقة لها في منامها، فسألتها: ماذا فعل معك ربك؟ فأجابتها أنه أنعم عليها وجعلها من أهل الجنة. فقالت لها: لعله بسبب كثرة صدقاتك ونفقاتك في سبيل الله، وخاصة سُقيا الحج التي أنشأتها وكلفتك الكثير والكثير من المال، حتى كاد مالك الخاص أن ينفد، ولكنك أصررتِ عليها وأتممتِها لوجه الله عز وجل، فهو عمل والله لعظيم ابتغيتِ به وجه الله الكريم. فقالت لها: صدقتِ، ولكن ليس الأمر كذلك، لأن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة بركعتين في جوف الليل كنت أُواظب عليهما، فهما اللتان أثقلتا لي الميزان ونلت بهما عفو الرحمن. فحدث نفسه: إن وجدتها وجدتها! ركعتين في جوف الليل أواظب عليهما يوميًا يضمنان لي عفو الرحمن ويُدخلني بهما الجِنان. وعزم على ذلك الأمر قائلًا بينه وبين نفسه: إنه لأمر هيّن، فالركعتان لن يزيد وقت أدائهما عن عشر دقائق، نعم عشر دقائق لا أكثر، وبقمة الخشوع، بل وبما فيها الوضوء. فقط عليّ أن أضبط هاتفي ليوقظني قبيل الفجر يوميًا بوقت مناسب، لأتوضأ وأقف بين يدي الرحمن لأداء الركعتين.
وبالفعل، في أول يوم ضبط هاتفه قبيل نومه، وأيقظه الهاتف في الموعد، فقام وذكر الله عز وجل، ثم توضأ وقام بأداء الركعتين بكل خشوع، وفي السجدة الأخيرة أخذ يناجي ربه كثيرًا، وفاضت عيناه بالعبرات، وأخذ يدعو الله عز وجل كثيرًا ويُلِحُّ في الدعاء قائلًا ومرددًا: اللهم أحسن خاتمتي، اللهم أحسن خاتمتي، اللهم... وإذا به لم يُكمل جملته الأخيرة، حيث ألجمه الصمت، وتسارعت أنفاسه، وزادت ضربات قلبه... وفاضت روحه إلى بارئها، واسترد الله أمانته!
