الاستثمار الأجنبي في سلطنة عمان بين الأرقام والواقع
خلال أسبوعين فقط، شهدت الساحة الاقتصادية في سلطنة عمان حدثين لافتين؛ أولها انسحاب شركة BP العالمية من مشروع طموح للهيدروجين الأخضر، ثم إعلان شركة سابك السعودية انسحابها من مشروع البتروكيماويات في منطقة الدقم الاقتصادية.
قراران قد يبدوان في ظاهرهما اتخذا بحسابات تجارية بحتة، لكنهما في الواقع يبعثان برسائل مقلقة إلى دوائر المستثمرين والمحللين، خصوصا حين لا يُنظر إليهما كحالتين معزولتين، بل ضمن سياقٍ أوسع من الانسحابات المتكررة التي بدأت تتشكل كظاهرة صامتة ومقلقة في ذات الوقت.
المفارقة اللافتة أن هذه التطورات تأتي في وقت تسجل فيه السلطنة أرقاما قياسية في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر. فبحسب البيانات الرسمية والإحصاءات الأولية التي تم نشرها مؤخرا : "بلغ حجم الاستثمار الأجنبي التراكمي المباشر نحو 30.28 مليار ريال عُماني بنهاية النصف الأول من عام 2025، مع تسجيل تدفقات بلغت حوالي 5.23 مليار ريال عماني خلال الربع الأول من العام ذاته. وقد بلغت مساهمة الاستثمار الأجنبي من الناتج المحلي نحو 11.1% تقريبا، في حين سجل الاقتصاد العُماني نموًا يقارب 2.3% خلال النصف الأول من العام".
وهنا يبرز سؤال جوهري، كيف يمكن التوفيق بين هذه الصورة الرقمية المشرقة وحالات الانسحاب على أرض الواقع؟ شهادات المستثمرين وخبراء الاقتصاد تكشف عن فجوة واضحة بين الخطاب الرقمي والتجربة العملية. فخلف مؤشرات النمو، تواجه الاستثمارات تحديات يومية أبرزها يتمثل في متاهة الإجراءات عبر مسارات إدارية طويلة ومتشعبة، تتطلب شهورا من المراجعات والموافقات.
من جهة أخرى فإن تعدد الجهات وتداخل الصلاحيات تشكل تضاربا في الأدوار وازدواجية في القرارات تؤدي إلى إطالة أمد التنفيذ. إضافة إلى ذلك، فإن غياب الحسم الزمني هو تحدٍ كبير آخر يواجه المستثمرين نتيجة انتظار قرارات مصيرية دون سقوف زمنية واضحة، ما يرفع مستوى المخاطر ويستنزف الموارد.
هذه التحديات، رغم تحديث التشريعات ووضوح التوجه الرسمي، تخلق بيئة تشغيلية مرهقة، تدفع حتى الشركات الكبرى إلى إعادة تقييم التزاماتها قبل الدخول في مرحلة التنفيذ الفعلي. وتظهر البيانات أيضا تحديا بنيويا آخر يتمثل في تركز الاستثمار الأجنبي في قطاع النفط والغاز، مقابل تذبذب الجاذبية في القطاعات غير النفطية التي تراهن عليها «رؤية عُمان 2040».
وفي الوقت الذي تمتلك فيه سلطنة عُمان موقعا جغرافيا استراتيجيا مطلا على المحيط الهندي، وثروات معدنية واعدة، فإن تحويل هذه الميزات إلى قيمة اقتصادية مستدامة ما يزال مرهونا ببيئة أعمال أكثر مرونة وقدرة على احتضان المشاريع النوعية من الفكرة حتى التشغيل الكامل.
تجربة الاستثمار تذكرنا بحقائق أساسية، أولها أن ارتفاع حجم الاستثمار لا يضمن استمرارية المشاريع. كما أن كثرة الصفقات لا تعني بالضرورة رضا المستثمر عن بيئة العمل اليومية. في حين قد تخفي المؤشرات الكلية اختلالات مؤسسية تؤثر في القرارات الاستراتيجية للشركات الكبرى، ويدفع المستثمر الأجنبي إلى التردد كثيرا قبل مباشرة العمل.
فالمستثمر العالمي لا يبحث عن امتيازات استثنائية، بقدر ما يبحث عن وضوح الإجراءات، سرعة الحسم، استقرار السياسات، وأمان إداري يحمي وقته ورأسماله.
خلاصة القول: لا يمكن إنكار الجهود التي تبذلها الحكومة لتحديث مناخها الاستثماري، من فتح الملكية الأجنبية في قطاعات واسعة، إلى تطوير الأطر التشريعية، وتبني خطاب اقتصادي منفتح. غير أن الواقع يشير إلى أن التحدي القائم ليس أزمة وجود اقتصادي، بل أزمة فعالية تنفيذية.
فالأرقام الإيجابية، على أهميتها، تحتاج إلى جهاز إداري أكثر ديناميكية، وقدرة أعلى على اتخاذ القرار، وتحويل الاستثمارات من تعاقدات على الورق إلى مشاريع ناجحة على الأرض. فالإنجاز الحقيقي لا يقاس بحجم التدفقات المالية وحده، بل بقدرتها على خلق أثر اقتصادي ملموس وفرص عمل، وقيمة مضافة مستدامة.
وفي النهاية، المستثمر لا يهرب من الفرص الواعدة، بل ينسحب حين يواجه تعقيدا غير مبرر، وضياعا للوقت، وغموضا في مسارات القرار.
ويبقى السؤال مفتوحا: هل تمتلك الجهات الحكومية الجدية الكافية لالتقاط هذه المؤشرات، والتدخل المبكر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
