الصحافة وإعادة توزيع السلطة التحريرية

23 ديسمبر 2025
23 ديسمبر 2025

لم يعد العمل الصحفي اليوم كما كان قبل سنوات قليلة. كان الصحفي يبدأ يومه بالبحث عن فكرة، أو مصدر، أو زاوية جديدة لتغطية الأحداث والقضايا. اليوم أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي حاضرة وبقوة، تقترح الأخبار، وترتّبها، وتقيّمها، وأحيانًا تسبق الصحفي إلى اتخاذ قرار النشر.

هذا الحضور المتزايد للذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار يفرض على الصحافة إعادة النظر في أدوات الإنتاج، ومواكبة التغيرات التي تشهدها المهنة، وأدوار الصحفيين، والقيم والأخلاقيات التي طالما شكّلت أساس العمل الصحفي.

اعتاد الصحفيون، لعقود طويلة، أن يقودوا العمل الإعلامي من بدايته إلى نهايته: إنتاج المحتوى، ونشره. غير أن هذا الدور لم يعد حكرًا على الصحفي وحده، بعد أن تسللت برامج الذكاء الاصطناعي بهدوء إلى غرف الأخبار سواء بمبادرات فردية أو مؤسسية، وبدأت تشارك، بدرجات متفاوتة، في صناعة المحتوى وتوزيعه على المنصات المختلفة. ولذلك علينا أن نعترف بأن تأثير الذكاء الاصطناعي على آليات إنتاج المحتوى الصحفي لم يعد تأثيرًا مستقبليًا أو افتراضيًا، بل أصبح واقعًا يوميًا يعيد تشكيل العملية الإنتاجية من الفكرة الأولى وحتى النشر والتوزيع.

في الوقت الحالي، أسهم الذكاء الاصطناعي في زيادة سرعة دورة الإنتاج الصحفي بصورة غير مسبوقة، وباتت عمليات البحث، وجمع المعلومات، ورصد الاتجاهات، والكتابة، تُنجز في وقت أقصر وبكلفة أقل، وهو ما جعل المؤسسات الصحفية قادرة على إنتاج محتوى أكبر حجمًا، وأكثر تنوعًا، ومواكبًا للإيقاع المتسارع للأحداث.

في المقابل، لم يغيّر الذكاء الاصطناعي أدوات الإنتاج فقط، بل غيّر العمل الصحفي ذاته. فالمحتوى الصحفي لم يعد يُنتج انطلاقًا من حدس مهني أو خبرة تحريرية فقط، بل بات يُصمَّم ويُنتج ويُوزَّع استنادًا إلى تحليل البيانات الضخمة، وتحليل تفضيلات وسلوكيات الجمهور، وهو ما عزز منطق «المحتوى الموجَّه» إلى جمهور محدد على حساب المحتوى العام. وهنا يظهر التحول من صحافة تُخاطب جمهورًا واسعًا إلى صحافة تُخاطب «جماهير مُجزأة» بدقة.

مع ذلك، لا يمكن الزعم بأن الذكاء الاصطناعي قد استبدل الدور الإبداعي للصحفي، وإنما أعاد تعريف هذا الدور. فقيمة الصحفي اليوم لم تعد مرتبطة بتنفيذ المهام الروتينية في جمع المعلومات وفحص صحتها وإعدادها للنشر، بل أُضيف إليها التفكير النقدي، واختيار زوايا التغطية، واتخاذ القرار التحريري، وضبط المعايير المهنية والأخلاقية في المادة الصحفية.

من المؤكد أن الذكاء الاصطناعي أعاد تشكيل آليات إنتاج المحتوى الصحفي من حيث السرعة والكلفة والتخصيص، وهو ما يطرح سؤالًا جوهريًا حول هوية الصحافة التي نريدها في مجتمعاتنا النامية: هل نريد محتوى صحفيًا سريعًا مُحسّنًا بتقنيات الذكاء الاصطناعي فقط، أم صحافة مهنية مسؤولة تحافظ على المعنى، وتلتزم بخصوصية السياق الوطني، وتعزز الدور المجتمعي للإعلام؟

من الناحية النظرية، لم يغيّر الذكاء الاصطناعي بعد الممارسات المهنية الراسخة داخل المؤسسات الصحفية العربية حتى الآن، لكنه بدأ يؤثر فيها تأثيرًا متدرجًا وتراكميًا، خاصة على صعيد إعادة تنظيم العلاقة بين الصحفي والتقنية، وأصبح يمثل شريكًا فاعلًا جديدًا في عملية الإنتاج واتخاذ القرار الصحفي، وهو ما يجب أن ننتبه إليه مبكرا ونضع الاستراتيجيات والخطط التي تجعل هذه العلاقة متوازنة.

لم تعد الممارسة المهنية قائمة فقط على امتلاك المهارات الصحفية التقليدية، وأصبحت تتطلب كفاءات جديدة مرتبطة بفهم الخوارزميات، وتحليل البيانات، والتعامل النقدي مع النماذج الآلية في توليد المحتوى.

الحقيقة أننا أمام تحول في دور الصحفي من «الصحفي المنتج للمحتوى» إلى «الصحفي المشرف على إنتاج المحتوى»، أي من الإنتاج الإنساني الخالص إلى الإشراف على ما تنتجه الأنظمة الذكية، وتقييمه، وضبط جودته.

وبذلك يسهم الذكاء الاصطناعي في إعادة توزيع السلطة داخل غرف الأخبار في الصحف، حيث تشارك خوارزميات التصفية والترتيب والتوصية في القرار التحريري، الذي لم يعد ناتجًا فقط عن تقدير إنساني خالص، بل عن تفاعل بين الحكم التحريري وحكم الخوارزميات.

يغيّر الذكاء الاصطناعي أيضًا منطق القيم المهنية الحاكمة للعمل الصحفي. فبعد أن كانت معايير اختيار المحتوى تتمثل في الأهمية، والقرب الجغرافي، والبعد المجتمعي، وخدمة التنمية والمصلحة العامة، برزت معايير جديدة مثل قابلية المحتوى لتحقيق التفاعل، واحتمالات الانتشار، وعدد مرات التعرض. ومن الطبيعي أن تتغير أدوار الصحفيين ومسؤولياتهم في ظل هذا التحول، وهو ما يمكن توصيفه بإعادة تموضع مهني داخل منظومة إنتاج جديدة، ينتقل فيها الصحفي تدريجيًا من دور المنتج المبدع إلى دور المشرف والمُقيِّم.

واتسعت مسؤوليات الصحفي لتشمل الإشراف الأخلاقي على المحتوى المنتج آليًا. فالصحفي لم يعد مسؤولًا فقط عما يكتبه بنفسه، بل عمّا تسمح به المؤسسة من محتوى مولَّد أو مدعوم بالذكاء الاصطناعي، وهو ما يحمّله مسؤولية مهنية عن الدقة، ومسؤولية أخلاقية عن كشف التحيزات الخوارزمية، ومنع التضليل. وظهرت أدوار مهنية جديدة، مثل الصحفي المتخصص في البيانات، والصحفي المشرف على الأنظمة الذكية، أو المحرر الخوارزمي، وهي أدوار لا تُلغي دور الصحفي التقليدي، لكنها تفرض عليه توسيع أدواته المعرفية.

في تقديري، أن التوسع في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة يثير عددًا من التحديات الأخلاقية والمهنية. أول هذه التحديات يتمثل في المصداقية ونَسبة المحتوي إلى صانعه، فمع انتشار المحتوى المولَّد آليًا، يصبح السؤال: من المسؤول عمّا يُنشر؟ الصحفي؟ أم المؤسسة؟ أم التقنية المساعدة؟ ويهدد ضياع المسؤولية هنا أحد أهم أسس العمل الصحفي التقليدي، وهو وضوح المسؤولية وإمكانية المساءلة اللاحقة على النشر، ويُضعف، بالتالي، ثقة الجمهور فيما ينشر.

وتتمثل ثاني التحديات في تحدي التحيز الخوارزمي الذي أصبح يمثل خطرًا مهنيًا على الصحافة. فالخوارزميات تتغذى على بيانات سابقة، وهذه البيانات غالبًا ما تعكس اختلافات ثقافية، أو سياسية، أو اجتماعية.

وعندما تُستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي في اقتراح ترتيب الأخبار أو صياغة المحتوى، فإنها تُعيد إنتاج التحيزات، ولكن في صورة «موضوعية رقمية» زائفة يصعب على الجمهور، وأحيانًا على الصحفيين، وعلى إدارات التحرير اكتشافها.

وتتصل ثالث التحديات بقضية التضليل وصناعة المحتوى الزائف. فالقدرات المتقدمة للذكاء الاصطناعي في إنتاج النصوص والصور والفيديوهات تجعل من السهل خلق محتوى شديد الإقناع لكنه غير صحيح، وهو الأمر الذي يضاعف الأعباء المهنية على الصحفيين، الذين عليهم مواجهة المصادر الذكية القادرة على محاكاة الواقع بدقة عالية. ويضاف إلى التحديات السابقة تحدي الشفافية التي تعني إفصاح الصحفي والمؤسسة الصحفية عن المحتوى المُنتَج أو المدعوم بالذكاء الاصطناعي؟ ويمثل غياب الإفصاح مخالفة أخلاقية قد تطيح بأسس العلاقة التعاقدية بين الصحافة وجمهورها.

في هذا الإطار، يجب أن نشير إلى التحدي المهني طويل المدى الذي يتعلق بالاعتماد المفرط على أنظمة الذكاء الاصطناعي، والذي قد يؤدي إلى تراجع المهارات الأساسية لدى الصحفيين الجدد، وتحويلهم إلى مستخدمين للأدوات بدلًا من صُنّاع للمعرفة.

في الحالة العُمانية، يكتسب هذا النقاش أهمية كبيرة، كونه يرتبط بمسار التحديث الإعلامي الذي تشهده سلطنة عمان، وبالحاجة الوطنية المستمرة إلى صحافة مهنية مسؤولة تواكب التحولات الرقمية دون أن تنسي دورها التنويري والنهضوي.

الذكاء الاصطناعي، مهما بلغت قدراته، لا يمكن أن يكون بديلًا عن الصحفي القادر على فهم مجتمعه، واستيعاب أولوياته، والتعامل مع قضاياه بحسٍّ وطني ومهني في آن واحد. إن التحدي الحقيقي أمام الصحافة العُمانية، وكذلك العربية، لا يتمثل في إدخال هذه التقنيات إلى غرف الأخبار، بقدر ما يتمثل في بناء ثقافة مؤسسية تُخضع المحتوى المنتج بالذكاء الاصطناعي للحكم الصحفي، وليس العكس، وتجعل أدوات الذكاء الاصطناعي داعمة للقرارات التحريرية البشرية، وليست بديلاً عنها.

أ. د. حسني محمد نصر أكاديمي فـي قسم الإعلام

بجامعة السلطان قابوس