إنعام كجه جي: ما يتفكك اليوم أكبر من قدرتنا على إصلاحه... والكتابة صارت احتجاجا بلا مجيب!!
23 ديسمبر 2025
23 ديسمبر 2025
حوار ـ فيصل بن سعيد العلوي -
بدأت إنعام كجه جي العمل في الصحافة قبل الدخول إلى عالم الرواية، ورافقت التحولات السياسية والاجتماعية في العراق من موقع الشاهد الذي يجمع الأخبار والوجوه والقصص. انتقلت إلى باريس للدراسة، ثم انفتح أمامها مسار مهني طويل في الصحافة العربية هناك، إلى جانب تجربة شخصية مع مجتمع مختلف وقيم جديدة في النظر إلى الحرية والمسؤولية الفردية. الروايات التي كتبتها لاحقا تنطلق من سير نسائية لها جذور في الواقع، وأحداث ترتبط بمدن وذكريات وتواريخ عاشها العراقيون في الداخل والمهجر... لا تنظر إلى الماضي كحنين، وإنما كمادة لفهم التحولات التي طرأت، وكيف تآكلت طبقات من المجتمع تحت ضغط الحروب والانقسامات، وفي أعمالها يبرز حس ساخر يخفف حدة الألم، إلى جانب نزعة توثيقية تسعى إلى حفظ ما يمكن إنقاذه قبل أن يتبدد. الأسئلة التي تثيرها كتاباتها تتعلق بالمكان، والحرية، والذاكرة، والعلاقة المعقدة بين تجربة العيش في بلد جديد وتاريخ يتراكم في القلب واللغة. هذا الحوار يقترب من تلك الأسئلة دون محاولة اختصار التجربة أو تأطيرها في تعريف واحد.
هذا الحوار لا يحاول تلخيص التجربة، بل يقترب من الأسئلة التي تشغل كجه جي اليوم: معنى الحرية بعد الخوف، وحدود الانتماء في حياة موزعة بين مكانين، ودور الذاكرة حين يتحول السرد إلى محاولة للحفاظ على صورة وطن يتبدد ببطء.
كيف تنظرين اليوم إلى اللحظة التي غادرتِ فيها بغداد نحو فرنسا باعتبارها لحظة تأسيس جديدة .. لا لرحلتك المهنية فقط، بل لوعي آخر بالحرية والكتابة؟
تلك لحظة باتت بعيدة جدا، لم تكن مشاعر فراق لأنني لم أكن عازمة على البقاء في فرنسا بأكثر مما يتطلبه الحصول على شهادة دراسية عليا، لكن الظروف حكمت بغير ذلك.
ما الذي يجعلك تخلطين التوثيق والفنتازيا حين تستعيدين حيوات نساء حقيقيات أو متخيلات بين بغداد وباريس وكأنك تحمين الحقيقة حين تروى بالخيال؟
لا أدري إن كنت أحمي الحقيقة لأنه لا أحد يستطيع الزعم بأنه يعرف الحقيقة تماما... لكنني بالتأكيد أحمي بهؤلاء النساء نفسي وذاكرتي وما رسخ في بالي من صور.
تكتبين عن عراق مهشم لكنك في الوقت نفسه تحرصين على أن تظل الشخصيات ممتلئة بالعناد والذاكرة، كيف تفهمين هذا الإصرار العاطفي على إبقاء العراقي القديم حيا وسط الخراب؟
وهل علينا أن نفهم رغبتنا الطبيعية في الحفاظ على مسقط الرأس جميلا متسامحا حرا وحضاريا؟.. نعم، الخراب شامل والأمل يبدو واهيا، لكنْ هناك جيل سابق لم يندثر كله بعد، أنا من جيل محظوظ عاش ما قبل الكارثة.
هل ترين أن الذاكرة المتعبة قادرة على أن تكون بديلا عن الوطن المفقود حيث تبدو الشيخوخة والزمن المتآكل ثيمة متكررة في مسارك الروائي؟
لا يعوض الوطن شيء، ولعل كبار السن وكبيراته في رواياتي يمثلون دعائم وطن تعرضت للاهتزاز بفعل الصراعات والحروب، ولا أتفق معك في وصف الذاكرة بالمتعبة... ذاكرتي مرج أخضر أعدو فيه بسعادة غامرة، فالشعوب التي تفقد ذاكرتها يسهل اختراقها وتبديد خصائصها... ألا تلاحظ كيف يستميت عدونا في التذكير بما عاناه خلال الحرب العالمية الثانية؟ مئات الأفلام وآلاف الكتب والروايات والمسرحيات والأشعار.
كيف تصنعين التوازن بين وعيك المهاجر الذي تشكل في بيئة ديمقراطية، وبين عالم عراقي محكوم بالتناقضات والتجريف حين تضعينه في قلب الرواية؟
البيئة الديمقراطية التي أعيش فيها نسبية، فهمتها بعد تجارب وصدمات وقراءات وحوارات مطولة... وفي الوقت ذاته أعي أن العراق لم يكن ديمقراطيا في السنين الخمسين الأخيرة، ولا أي بلد عربي... أنت تدرك الواقعين المختلفين وتجتهد لرسم روايات تنسجم وواقعها الخاص.
كيف تعمل الكاتبة التي صارت ابنة الحرية على تفكيك آثار الخوف القديم دون أن يتحول إلى رثاء وأنتِ التي أعلنتِ مرارا أن الخوف كان موضوعك الأول؟
الخوف لا يخصني بمفردي بل يخص كل مواطن في عالمنا الثالث، رجلا وامرأة، بهذا القدر أو ذاك... من يضمن ألا يتفوه برأي لا يذهب به وراء الشمس؟ حريتي ثمينة لأن (وراء الشمس) هو منطقة مكشوفة ومحددة في فرنسا لكن هناك هواجس يعاني منها المهاجر الذي يبقى غريبا ومشبوها... عن أي رثاء تتحدث؟ أنت ترثي الميت لكن الخوف العربي ما زال حيا يتنفس بل ويستفحل.
تكتبين عن واقع يبدو أحيانا أكثر غرابة من الخيال .. كيف تحددين اللحظة التي يجب فيها أن ينحرف السرد عن الحقيقة ليكشف ما لا تقوله الحقيقة نفسها؟
ما أكتبه واقع حقيقي وقد عشته والتقيت بأبطال رواياتي في مراحل من حياتي... مصيبتنا أن واقعنا يبزّ الخيال في قسوته وغرابته ومفارقاته.
من خلال تجربتك الطويلة في الصحافة وتقاطعاتها مع الرواية، ما الذي تعتقدين أنه فُقد في الكتابة العربية المعاصرة من حس التمحيص والسؤال؟
لا يمكنني إبداء رأي صحيح لأنني لا أمتلك الإلمام بما تسميه الكتابة العربية المعاصرة... أحاول المتابعة وملاحقة بعض ما يصدر لكن ما أصل إليه قطرة في بحر.
بعد هذا العمر من العيش في المنفى الاختياري، كيف تفهمين اليوم معنى الانتماء... هل هو تذكّر، أم كتابة، أم محاولة دائمة لتفسير المكان الأول؟
هو الانتماء إلى إنسانيتك قبل كل شيء... أهم ما تعلمته هنا هو قبول الآخر والمختلف، وبهذا المعنى فإنني أشعر أحيانا بالانتماء إلى صديق فنزويلي يشابهني في احترام قيم معينة أكثر من ابن بلد تساهل مع الطيب والأصيل من قيمه.
حين تنظرين إلى أعمالك باعتبارها «سيرة وطن يشيخ»، ما السؤال الذي ما زال يؤلمك لأنك لم تجدي له جوابا داخل الرواية؟
ليته يشيخ فحسب... هو لا يشيخ لأن نسبة الشباب كبيرة لكنه يتبدد، وبالتقسيط، يؤلمني أن ملايين العراقيين يؤمنون بما أؤمن به وهم ساخطون على ما حل بالوطن لكننا جميعا لا نملك حلا لوقف الانهيار، المقادير في أيدي مراكز قوى تتبادل المنافع... كثيرون يكتبون ويعترضون وينددون بالفساد لكن لا «حياء» لمن تنادي.
