«المنكوس» فن عُماني ينتظر قائمة التراث العالمي

22 ديسمبر 2025
22 ديسمبر 2025

أبدع الإنسان البدوي فنونه الخاصة والمُعبّرة عن حياته في الصحراء، فقد كانت فنونه الصوتية وسيلة من وسائل التغلب على الصمت الذي لا يُحتمل في الرملة، ففي الصحراء العُمانية أوجد الإنسان البدوي فنونا صوتية خاصة به نتيجة للظروف الحياتية التي يعيش أدق وأصدق تفاصيلها في فضاء أجرد مترامي الأطراف، لا يجد فيه المرء إلا الذات للاستئناس بها والركون إليها.

تكتسي الفنون الفردية التي لا تصاحبها آلة موسيقية طابعا خاصا لأنها تُعبر عن هواجس ذاتية ولحظات خاصة يتفاعل معها الإنسان ويجد فيها سلواه، فتذهب عنه همومه وشقاه في أي منطقة جغرافية كانت. صحيح أن الفنون الجماعية متطورة قياسا بالفنون الفردية، إذ تكمن متعتها في قيمة المشاركة التي تأخذ شكل الطقوس ومظاهر الاحتفالات، أما الفنون الفردية المرتبطة بالمهن الشاقة كالرعي والصيد والزراعة، أو الدالة على الانتقال كالترحال والسفر، فإنها تعبّر عن خلجات الإنسان وتبرمه وأيضا دعواته بتغيير الحال وتبدل المآل.

من الفنون البدوية العُمانية التي تعرفت عليها مؤخرا فن «المنكوس»، وهو فن عُماني أصيل يُردد في البادية الجنوبية وقت الأصيل حين تكسر الشمس حدتها ويبدأ البدوي في المرواح، حينها يطلق صوته في البيداء ليسمعه الصمت والسكون، ولتشهد الفيافي على تآلف الإنسان مع محيطه البيئي وتمسكه بالحياة في أصعب الظروف الطبيعية على وجه الأرض.

حدثني عن فن «المنكوس» الشيخ عوض بن سالم مسن، نائب والي مقشن بنيابة مندر الظبيان، وأخبرني بأنه فن يتعرض للاندثار بسبب قلة مردديه. بقي الفن في الذاكرة من يومها، وقد سألت عنه أحد المشاركين في ملتقى سيرة الصحراء في عُمان التي نظمها النادي الثقافي في سبتمبر الماضي، لكني لم أجد لديه الجواب. مؤخرا استمعت إلى الفن في ملتقى مندر الظبيان الثقافي التراثي الذي أُقيم منذ أسبوعين، بأصوات عذبة شجية وكلمات جزلة معبّرة، ردّد طرق «المنكوس» كل من مبارك بن سالم مسن، وعبدالله بن أحمد مسن. تقول كلمات الفن:

«أنا كل ما جريت صوتي على المنكوس

تذكرت لي خلّن من العام يطرأ لي

تعلّق بقلبي وأصبح بخاطري محبوس

خياله قريب وكلّما سرت يبرأ لي

تباعدت أنا وإيّاه والقلب في هَجوسولا

إني مضيّع صورته لو تناسى لي».

جاءت تسمية «المنكوس» من خلال أداء المردد الذي يرفع الصوت ثم يبطئه وينكسه تدريجياً إلى أن ينهيه بمد طويل. ويتوجب أن تتوفر في طارق «المنكوس» عدة صفات منها طول النفس والحفاظ على نغمة الموسيقى والتنقل بين الأبيات بكل سهولة.

من خلال البحث وجدنا أن الفن بدأ في جنوب الجزيرة العربية ثم انتقل إلى الشمال. ولا عجب في ذلك بما أن «المنكوس» عمل ثقافي تتشارك فيه المجموعة البشرية التي تسكن الصحراء، فمن الطبيعي أن ينتقل الفن مع رحلات البدو في ربوع الجزيرة العربية. ولذلك يُعبّر «المنكوس» عن ثقافة جماعية تتجاوز الحدود السياسية إلى المشترك الثقافي والإنساني، إذ من المؤكد أن الفنون الثقافية للشعوب المتجاورة تتشارك في أصل الفن وتختلف في الفروع، ويُمثل ذلك تطور الأشكال التعبيرية وفق سياقاتها الثقافية. ولذلك آن الأوان لتسجيل الفن في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي التابعة لمنظمة اليونسكو، كتراثي إنساني مشترك مع دول الجوار التي يؤدي مواطنوها فن «المنكوس». بغية صونه والحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال اللاحقة. وبذلك ينضم الفن التقليدي البدوي إلى الفنون العُمانية المُدرجة في قائمة التراث العالمي كـ«البرعة، وفن التغرودة، وفن العازي، وفن العيّالة، وفن الرزفة». وليمثل أيضا أشكال التنوع الثقافي التي تزخر

بها الثقافة العُمانية.

محمد الشحري كاتب وروائي عُماني