حسن نجمي: لا أثق بالقصيدة التي تُغلق معناها ولا بالشاعر الذي يدّعي امتلاك أسرار نصّه
•أنا لا أكتب القضايا الكبرى فالتفاصيل الصغيرة وحدها تحتمل الشعر
•المعرفة لا تُفسد القصيدة، ما يفسدها هو تحويلها إلى وعاء للأفكار
•الزمن صار تيمة قلقة في كتابتي... الفقد يجعل حضوره أكثر عنفا
•أعيش في يوم الإثنين بينما الآخرون يهرولون في الثلاثاء
يتقدّم الشعر كمساحة تفكير مفتوحة فلا نص مكتمل ولا تجربة تُروى من الخارج .. تنطلق الأسئلة من داخل القصيدة نفسها، من علاقتها باللغة والزمن واليومي ومن توترها الدائم مع الواقع والذاكرة والمعرفة... وما يطفو هنا هو صوت يكتب وهو يصغي، ويقرأ وهو يعيد ترتيب حساسيته تجاه العالم.
يتحدّث الشاعر المغربي حسن نجمي عن الكتابة باعتبارها ممارسة بطيئة... جسدية... تراكمية، تتشكل عبر التجربة والقراءة والفقد وعبر تماس طويل مع أمكنة وأزمنة وأصوات لا تنفصل عن القصيدة حين تولد، فالتفاصيل الصغيرة تتحوّل إلى مركز للمعنى، والبطء إلى موقف، والمعرفة إلى طاقة تعمل في العمق من دون أن تطغى على الإيقاع الداخلي للنص.
في هذا الحوار نمضي إلى مناطق أكثر هشاشة: سؤال الزمن والذاكرة... الموت، والذات وهي تحاول أن تحافظ على صوتها من الذوبان في الضجيج العام... هنا تظهر القصيدة مساحة مقاومة هادئة، تحاور المرجعيات وتحتفظ بحقها في الغموض، وتترك المعنى مفتوحا على احتمالاته... لكن هذا الحوار لا يسعى إلى خلاصات نهائية، ولا يقدم تعريفات جاهزة فالقارئ هنا أمام تجربة كتابة ترى في الشعر صداقة مع الزمن، ومجالا للإنصات، وأفقا إنسانيا يظل قيد التشكل مثل القصيدة نفسها.
حين نقرأ قصيدتك اليوم، نشعر أنها تُكتب من موقع مراقبة هادئة للعالم.. متى تحوّل هذا الهدوء من اختيار جمالي إلى ضرورة داخلية في الكتابة؟
أظن أن سيرورة كتابة الشعر استغرقت مجرى زمنيا طويلا، ليس فقط كي تتشكّل القصيدة، بل كي يتكوّن وعي شعري بالجمال وبالفن نفسه.
هذا الاشتغال لا يأتي تلقائيا، ولا يولد جاهزا، بل يتشكّل عبر التجربة الشخصية، تجربة المكان، تجربة الزمن، وتجربة اللغة، وأنت تعيش مع ذاتك ومع الآخرين، تقتسم معهم الصمت كما تقتسم الصخر، وتدخل في المشترك الثقافي والاجتماعي والسياسي، وتحتكّ أيضا بالمختلف، وبالأحداث، وبمجريات الواقع اليومي.
حين أتأمل هذا المجرى الشعري اليوم، أشعر أنني انتقلت من كتابة لم تكن تخلو من ارتباك في علاقتها بالواقع المعيش والحياة اليومية، وفي علائقها المتعددة مع التجربة السياسية وتجربة المجتمع... كان هناك وعي شعري ناقص، أراه الآن من مسافة.
ومع الوقت بدأت أدرك أن الانتصار للجمال داخل الكتابة هو الأساس، وأن الاشتغال على المتخيّل الشعري هو ما يمنح القصيدة قيمتها... هذا لا يعني الانطلاق من واقع متوهَّم، بل من واقع معيش وملموس، من تجربة حقيقية. من هنا اختلف وعيي باللغة، واختلف إحساسي بشعرية النص، كما اختلف وعيي بعلاقاتي المتعددة: علاقتي بذاتي، بروحي، بجسدي، باللغة نفسها، وبالآخرين، وبالعالم من حولي.
هذا التحوّل جاء من المعرفة، ومن أشكال مختلفة من البحث، لكنه جاء أساسا من القراءة. عندما أقرأ تجارب شعرية من جغرافيات شعرية كونية، غالبا عبر لغات وسيطة كالفرنسية أو الإيطالية، وأحيانا عبر ترجمات موفّقة وأحيانا غير موفّقة، أبحث عن صوت شعري مختلف، عن لحظة اكتشاف، عن طريقة جديدة في بناء القصيدة وتقنياتها.
حين أكتشف شاعرا، أحرص على قراءته بعناية شديدة... إذا قرأت يانيس ريتسوس، أقرأ أعماله الشعرية كاملة قدر الإمكان، وأقرأ روايته اليتيمة، وما كُتب عنه، وحواراته التي يكشف فيها مختبره الشعري الداخلي. وحين أقرأ يوجين غيلفيك، أقرأ مجمل أعماله، وما كُتب عنه، وحتى مراسلاته مع أصدقائه من الشعراء والكتّاب.
الأمر نفسه مع جوزيبي أونغاريتي، قرأت أعماله الشعرية كاملة، أولا بالفرنسية ثم بالإيطالية، ولدي في مكتبتي أكثر من طبعة لأعماله.
هذا القرب من صوت الشاعر يتيح لي أن ألتفت إلى طريقته في التعامل مع المكان، مع اللحظة، مع التجربة الشخصية، ومع حضوره الشعري في العالم. أكون سعيدا عندما أكتشف لديه لمسة تقنية خاصة، أو طريقة في البناء لا تشبه الآخرين.
ولا يقتصر الأمر على الشعر وحده، حتى الرواية كانت حاضرة في هذا التعلّم. قرأت غابرييل غارسيا ماركيز، وخوان رولفو، وكنوت هامسون، وبول أوستر، وحرصت على متابعة أعمالهم وحواراتهم. أذكر أنني التقيت بول أوستر مرة في برلين، وتصرفت أمامه ببراءة طفل أو مراهق، من شدة التأثر.
تجربة الشاعر لا تبدأ مكتملة، ولا تنتهي إلى اكتمال مغلق. الشاعر يشتغل باستمرار، يبحث، يتعلّم، يتتلمذ، ويشعر دائما بتواضعه أمام العالم وتعقيداته. يتعلّم من الآخرين، وربما يتعلّم الآخرون منا أيضا. نحن في الجغرافيا الشعرية العربية لدينا ما نقدّمه، بتاريخنا، وحضارتنا، وتجاربنا، وأصواتنا، ويمكن أن يكون هذا التبادل أحد أشكال المعنى العميق للشعر.
______
في نصوصك حضور واضح لليومي والهامشي، دون أن يتحول إلى سرد مباشر.. ما الذي يجعلك تثق بتفصيل صغير ليحمل عبء المعنى كله؟
أستطيع أن أقول إن صناعة الجمال الشعري لا تأتي من انشغال الشاعر المباشر بما نسمّيه القضايا الكبرى. نحن، كبشر ومواطنين، نعيش هذه القضايا يوميا، نخضع لضغوطها، نتفاعل معها، نتألم، نحزن، وأحيانا تفيض أعيننا بالدمع أمام مشاهد مأساوية كبرى: حروب، كوارث، تراجيديات تخترقنا في العمق الإنساني. لكن حين نصل إلى لحظة الكتابة الشعرية، لا يمكن أن نذهب إلى القصيدة بهذه الضخامة الخام كما هي.
ما نحتفظ به لأنفسنا من تلك الأحداث الكبرى، نذهب به إلى القصيدة في صورة تفاصيل صغيرة، تبدو هامشية في الظاهر، لكنها ليست كذلك. نذهب بلمسة إنسانية مُكثّفة نعتصرها من قلب التجربة. خذ مثلا ما نعيشه اليوم من حرب دامية ووحشية في غزة، مجازر يومية، أعداد هائلة من الشهداء، مشاهد لا تُحتمل إنسانيا ولا أخلاقيا ولا قانونيا. نحن نراها عبر الشاشات، عبر الكاميرات، لكن الشعر لا يكتبها كما تكتبها الكاميرا.
القصيدة تمرّ أولا عبر مصفاة داخلية. قد نحتفظ بصورة رأس مبتور، أو ذراع مقطوعة، أو أم شاردة تحمل ذراعا وتبحث عن جسد ابنها، مكسورة، مفجوعة أمام هول ما رأت وما تعيشه في تلك اللحظة الكارثية. هذه التفاصيل ليست نقلا مباشرا للحدث، بل خلاصة إنسانية له. الشعر لا يُكتب كخطبة سياسية، ولا كمقالة صحفية، بل يُكتب كشعر، كتمرين روحي عميق.
لهذا تصبح التفاصيل شرطا لكتابة شعرية أكثر جدية، وأكثر انتصارا للمعنى الشعري. إذا عشنا الحياة اليومية كما هي وكتبناها كما هي، فلن نكون شعراء. ما يميّز الشاعر هو تلك المسافة الداخلية غير المرئية، تلك النظرة المختلفة، الرؤية النفّاذة التي تتكوّن من عين العقل، وعين القلب، ومن معرفة جمالية وثقافية تتراكم عبر الزمن.
حين نلتقط عنصرا من التجربة اليومية، مشهدا من الطبيعة، أو تفصيلا حضريا في المدينة، وندخله القصيدة، فإننا نراه بمعرفة كامنة، بتكوين تشكّل عبر القراءة، عبر الذاكرة، وعبر النسيان أيضا. الشاعر يذهب إلى القصيدة محمّلا بكل مدخراته: تجاربه في المكان والزمان، قراءاته، عثراته، خيباته، آماله، طموحاته، حاجاته. لا يوجد شاعر حقيقي يذهب إلى القصيدة عاريا من كل هذا، وإلا جاءت القصيدة خاوية، غير ممتلئة بالمعنى، ولا بالفكرة، ولا بالصورة، ولا بالمشهد.
______
علاقتك باللغة تبدو قائمة على تقليل الفائض لا على استعراض الإمكانات. كيف تعرف أن القصيدة وصلت إلى حدّها الكافي، وأن أي كلمة إضافية ستكسر توازنها؟
أنت هنا تحيلني للحديث عن مختبري الشعري الشخصي... في الحقيقة، حين أكتب، أكتب في لحظة أستشعر فيها حاجة قصوى إلى القصيدة. أنا أكتب يوميا تقريبا، أسطرا وجملا وأفكارا وكلمات مفردة، غالبا في شكل تدوينات يومية. لكن القصيدة تبدأ قبل الصفحة. أكتبها جسديا، إن صحّ القول. أكتب باليد، وأشعر بما يمنحني الجسد من طاقة عبر الحركة، والإيماءة، والاندفاع.
معظم القصائد التي أكتبها تكون قد كُتبت جسديا قبل أن تُكتب على الورق: وأنا أمشي، وأنا مستلقٍ، وأنا على الكرسي، وأنا ذاهب أو عائد من المكتب إلى البيت. في هذه اللحظات تتكوّن الأفكار والمشاهد، وحين أصل إلى الصفحة، تصبح الكتابة نوعا من التثبيت، كأنني أقيّد ما كُتب جسديا وأحبسه على بياض الورقة.
لكن التثبيت لا يعني التوقف عن الاشتغال. أقرأ القصيدة مرة، مرتين، ثلاث مرات. أحيانا أضيف سطرا أو جملة أو كلمة، وأحيانا أحارب أحرفا زائدة لا أحبها، خاصة أدوات العطف التي قد تربك إيقاع النص. أنتبه أيضا إلى كثافة التشبيهات في قصائدي، وربما يعود ذلك إلى تكوين قروي في شخصيتي؛ فالناس في القرى، حين يشعرون بأن اللغة لا تكفي، يستعينون بالجسد: باليد، بالرأس، بالصوت، بالإيماءة، وبالتشبيه لتقريب المعنى. لهذا أكون واعيا بالحاجة إلى تهذيب التشبيهات، إلى تخفيف غلوائها، وإعادة التوازن بين العناصر اللغوية والبلاغية.
كتابة القصيدة عمل يستغرق وقته الكامل. أُبعد الزوائد، وأحذف التراكيب التي تشوّه لحمة النص ونسقه. أحيانا أكتب قصيدة وأتركها في ملف، في درج، وأنساها أشهرا أو حتى سنوات. وحين أعود إليها، أقرأها بعين جديدة وبحساسية مختلفة، وربما بوعي آخر... عندها تصبح عملية التشذيب أسهل: مقطع لا يضيف شيئا يُحذف فورا، حرف زائد يُزال، حرف ضروري يُعاد، كلمة تُترك وحيدة في صدر السطر، أو تُلحق بسطر آخر بحسب ما يقتضيه الإيقاع والمعنى.
عندما أصل إلى لحظة أشعر فيها أنني أعطيت القصيدة كل ما أستطيع، وأن أي إضافة لن تكون إلا عبئا، أعرف أنها وصلت إلى حدّها. هنا تتدخل الحرفية، والدربة، وتجربة الكتابة التي تتراكم عبر القصائد والكتب، وتعلّم الشاعر كيف يصغي إلى النص حين يقول له: اكتفيت.
______
كتبت الشعر واشتغلت بالنقد في آن واحد. كيف أثّر هذا التداخل على حساسيتك أثناء الكتابة؟ ومتى شعرت أن المعرفة قد تصبح عبئا على القصيدة؟
لا أظن أن المعرفة تشكّل عبئا على القصيدة في حدّ ذاتها. العبء الحقيقي ينشأ حين يُسيء الشاعر تقدير موقع المعرفة داخل النص، فيتعامل مع القصيدة كما لو كانت وعاء يملؤه بأفكاره وأطروحاته النظرية. في هذه الحالة، من الصعب أن تُولد قصيدة حيّة. لكن هذا لا يعني أن القصيدة نصّ خالٍ من المعرفة؛ على العكس، القصيدة إحدى تجلّيات المعرفة الأساسية.
لا يمكن أن نكتب عن شجرة من دون أن نعرف ما هي هذه الشجرة، وما تكوينها، وأن تلك النتوءات التي نراها على جذعها هي تواريخ، هي ذاكرة متراكمة. ولا يمكن أن نكتب عن المجرّات من دون أن نعرف الفروق بين المجرّة والنجم والكوكب، ولا عن الفضاء من دون حدّ أدنى من المعرفة به. البحر كذلك: إذا لم نعش تجربته، فعلينا أن نقرأ عنه، لأن البحار والمحيطات ليست شيئا واحدا، وكل بحر يحمل ثقافته وخياله ونصوصه المرجعية الكبرى. الأمر نفسه مع الصحراء؛ لا يمكن أن نكتب عنها كمن جاء من كوكب بعيد لا يعرف لغتها، ولا أهلها، ولا أنماط حياتها، ولا اختلاف صحارى العالم بحسب الجغرافيا والعناصر الطبيعية.
المعرفة، بهذا المعنى، شرط أساسي للكتابة. لكن القصيدة لا تُكتب بالمعرفة وحدها. ينبغي أن تكون قادرة على الإحساس، على لمس الأشياء والكائنات، على الإنصات للصمت كما للصوت، وعلى الاحتفاء بعناصر الحياة المختلفة. في الوقت نفسه، على الشاعر أن يحتفظ بروح الدهشة، بشيء من طفولة داخلية، حتى لا تتحول القصيدة إلى بناء جامد خاضع لسطوة العقل وحده.
ما يشغلني دائما هو هذا التوازن الدقيق بين ما هو فكري ومعرفي، وما هو شعري وعاطفي ووجداني ولغوي. هذا التوازن هو مختبر القصيدة الحقيقي. الشاعر ليس مصنعا للكلمات، وليس كتلة صمّاء. هو كيان بشري حيّ، قادر عبر اللغة على إنتاج نص دلالي يعكس روحه، وخياله، وأقصى درجات الصمت الكامنة في داخله. هنا فقط تتحوّل المعرفة من عبء محتمل إلى طاقة خفية تعمل في عمق القصيدة، لا على سطحها.
______
قصيدتك لا تتعامل مع الذات باعتبارها مركزا مغلقا، ولا تذيبها تماما في الجماعة... كيف تبني هذه المسافة الدقيقة بين الصوت الفردي والقلق العام؟
دعني أتحدث بصفة عامة، الشاعر الحقيقي لا يعيش بمفرده في الكون، لا في المدينة ولا في البادية. الشاعر يعيش مع الآخرين، داخل مجتمعه وداخل المجتمع الإنساني الأوسع. لا يعيش لحسابه الخاص، بل يعيش أحداث عصره، وينخرط فيها، سلبا وإيجابا، شاء أم أبى. وعندما يكون أمام الصفحة البيضاء، لا يكون وحيدا كما يُشاع. نحن لسنا وحدنا داخل القصيدة.
أسمع أحيانا من يقول إن الشاعر يختلف عن المبدعين الآخرين لأنه لا يحتاج إلى أدوات ضخمة؛ السينمائي يحتاج إلى كاميرات وتقنيات، والفنان التشكيلي يحتاج إلى ألوان ومواد، بينما الشاعر يجلس وحده مع نفسه. هذا تصور غير دقيق. صحيح أن مادة الشاعر هي اللغة، لكن حضوره أمام الصفحة البيضاء يكون ممتلئا بالأصوات الأخرى، بالروائح الأخرى، بالآخرين الذين يقتحمونه قبل القصيدة وأثناءها.
حتى عندما يكتب الشاعر عن ذاته أو عن تجربة تبدو فردية، فهو لا ينفصل عن العالم من حوله. اللغة نفسها التي نكتب بها لغة مشبعة بتجارب الآخرين، بتراكم تاريخي طويل من الاستعمالات.
نحن لا نخترع الكلمات من فراغ. هناك قول جميل لأحد اللغويين العرب: نحن لا نأخذ الكلمات من المعجم، بل نستشير المعجم في الكلمات التي نستعملها. الكلمات التي نختارها استعملها قبلنا آخرون في الشعر، وفي السرد، وفي المعرفة. لكنها حين تمرّ عبر الشاعر، تمتلئ بنفَسه الخاص، بتخيّله، برؤيته، وبخبرته الإنسانية، فيصبح واحدا من الأصوات التي استقرت داخل تاريخ هذه الكلمات.
لهذا يمكن أن تتحول مفردات بعينها إلى معجم خاص باسم شاعر معيّن. حين يكثر شاعر شاب من استعمال الزعتر أو البرتقال، يتبادر إلى الذهن محمود درويش. وحين يكثر الحديث عن الجسد، نتذكر أدونيس. الأمر نفسه مع سعدي يوسف، وأنسي الحاج، ومحمد الماغوط. في تجربة رياض حسين، مثلا، تحضر مرجعية الماغوط بوضوح، رغم أن للشاعر صوته وتجربته الخاصة. وكذلك حين نقرأ شعراء عربا معاصرين، قد نلمح حضور سان جون بيرس، أو أوكتافيو باث، أو نيرودا، أو لوركا، أو ريتسوس، أو إليتيس، أو ماياكوفسكي، أحيانا بشكل واضح، وأحيانا بشكل خفي لا يلتقطه إلا قارئ متمرّس.
هذا التداخل، هذا التناص، هذا الحوار أو الاشتباك مع المرجعيات السابقة، هو جزء من طبيعة القصيدة. حتى القصائد الكبرى لا تُكتب خارج هذا التاريخ. حين نوقّع قصائدنا بأسمائنا، فنحن نكتب داخل تاريخ الكتابة الشعرية الإنسانية، لا خارجها. الذات هنا ليست جزيرة معزولة، ولا صوتا ذائبا تماما في الجماعة، بل نقطة توتر حيّة بين تجربة شخصية فريدة وقلق عام يشترك فيه الجميع.
______
عبر مسارك، ظل سؤال الزمن حاضرا بأشكال مختلفة: الذاكرة، اللحظة، الأثر... ما الذي تغيّر في نظرتك للزمن مع تراكم التجربة؟
أصبح قلقي تجاه الزمن أكثر حدّة مما كان عليه في السابق. في مراحل سابقة، كان الزمن يحضر في القصيدة بوصفه أداة تقنية، عبر صيغ الماضي والحاضر والمستقبل، كوسيلة لحمل معنى شعري معيّن. اليوم، أكتب عن الزمن نفسه، بعدما تحوّل إلى تيمة مركزية في نصوصي. هذا التحوّل يعكس قلقا كامنا تجاهه، ووعيا مختلفا بحضوره.
الزمن، في وعيي ولا وعيي، لا يظهر منفصلا، بل يدخل دائما في جدلية مع المكان، ومع الفضاء عموما. لا وجود لزمن في الفراغ. هناك دائما جدران، وأمكنة، وحدائق، وشجر، وامتدادات عمرانية ومعمارية، يمدّ الزمن فوقها جناحيه. أحيانا يفصل النقد بين الزمان والمكان، كما لو أن كل عنصر قائم بذاته داخل القصيدة، بينما التجربة الشعرية تقول إنهما في حوار دائم، حتى حين لا يُصرّح بهما النص.
حين أستحضر الزمن، أستحضره مرتبطا بذاكرة المكان، وبالتجربة الشخصية مع أمكنة بعينها. وربما يعود هذا إلى تراكم الكتابة، وإلى التجربة الذاتية نفسها، وإلى سيرورة العيش داخل الزمن. لم أعد ذلك الصبي الذي كنتُه يوما. التقدّم في العمر، والتقدّم نحو المجهول، يضعان الزمن في مواجهة مباشرة مع السؤال الوجودي: إلى متى سنظل هنا؟ ومتى سنغادر هذا العالم؟
أحيانا أعيش علاقتي بالزمن كصداقة، أو كحوار هادئ، أو كعلاقة روحية وجسدية. وأحيانا أخرى تتحوّل إلى علاقة متوترة، مشحونة، فيها نوع من العنف الرمزي أو الصامت، خصوصا حين يقترب الزمن من فكرة الموت. هنا تحضر تجارب الفقد، موتاي الشخصيون، والموتى الكونيون الذين شكلوا جزءا من وعيي الثقافي والإنساني.
حين توفي بول أوستر، مثلا، وكان قد التقيته قبل فترة قصيرة في برلين، شعرت بفراغ خاص. كان كاتبا كونيا كبيرا، وأحسست أنه كان قادرا على أن يعطي أكثر. لكن المفارقة المؤلمة أنني حين التقيته كان برفقة ابنه دانيال، الذي التقط لنا صورا، وكان برفقة طفلته الرضيعة. بعد ذلك بفترة، مات الابن منتحرا، بعد محنة قاسية، وماتت طفلته الرضيعة، ثم أُعلن عن إصابة أوستر بالسرطان، ولم تمضِ سوى أقل من سنة حتى توفي.
هذه العناصر المتداخلة: الصورة، اللقاء، الفقد المفاجئ، ما لا يمكن التنبؤ به، كلّها جعلت علاقتي بالزمن أكثر تعقيدا. الزمن لم يعد مجرد خلفية للقصيدة، بل صار قوة ضاغطة، تُعيد تشكيل نظرتي إلى الحياة، وإلى الكتابة، وإلى الأثر الذي نتركه ونحن نعبر هذا العالم.
ثم جاءت التطورات التي عرفتها مأساة الاب، ثم وفاته، وما تلاها من تفاصيل متراكبة، وهي أمور لا يمكن أن تمرّ على الشاعر مرورا عابرا. مثل هذه الوقائع، حين يدخل فيها عنصر الموت، تضعني مباشرة في مواجهة حادّة مع الزمن. أولئك الذين ماتوا، وكتبت عنهم، بعضهم لم أعش معه، لكنني عشت فقدانه من بعيد، عبر تفاعل إنساني وشعري عميق... هنا يصبح الاشتغال على ثيمات الزمن أمرا لا مفرّ منه. الزمن لا يعود فكرة مجردة، ولا بناء لغويا يمكن التحكّم به بسهولة، بل تجربة قاسية، مركّبة، مليئة بالانكسارات. الفقد يجعل الزمن أكثر حضورا، وأكثر عنفا في أثره، لأنه يذكّرك بما لا يمكن استعادته، وبما لا يمنح فرصة ثانية.
تجربة الزمن ليست سهلة، وليست بسيطة على الإطلاق. هي تجربة مثقلة بالتراجيديا، وربما أكثر تراجيدية من تجربة المكان نفسها. المكان يمكن أن نغادره أو نعود إليه، يمكن أن نستحضره بالذاكرة أو بالحنين، أما الزمن فلا يتيح هذه المرونة. الزمن يمضي، يترك آثاره، ويفرض علينا وعيا جديدا بالهشاشة، وبالزوال، وبما يتسرّب من أيدينا ونحن نظن أننا نملكه... لهذا صار الزمن، في كتابتي، مجالا للقلق، وللتأمل، وللمواجهة الصامتة مع معنى العبور الإنساني كله.
______
... وفي هذا الزمن تميل القصيدة إلى الضجيج أو الاستعجال، كيف ترى مكان النص الذي يراهن على البطء وعلى قراءة ثانية وربما ثالثة؟
أشكرك على هذا السؤال، لأنه يلامس ما أشتغل عليه فعليا في الفترة الأخيرة.. كتبت مؤخرا قصيدة في مديح البطء، واستحضرت خلالها محاضرات إيتالو كالفينو، الروائي والمفكر الإيطالي الكبير الذي كتب ست محاضرات كان ينوي إلقاءها في إحدى الجامعات الأمريكية، لكنه توفي قبل أن يفعل، فجمعت ونشرت لاحقا في كتاب بمبادرة من زوجته وناشره... في تلك المحاضرات، يتحدث عن البطء بوصفه قيمة مركزية في التفكير وفي الكتابة.
هذا البطء لا يعني بطئا تقنيا في إنجاز النص، بل هو بطء معرفي بالأساس، بطء في علاقتنا بالزمن. نجده عند ميلان كونديرا، وعند كتاب وشعراء كثيرين اشتغلوا على فكرة التمهّل، وعلى التكرار، تكرار الأصوات، وتكرار اللحظات، وعلى الحاجة إلى إيقاف الزمن قليلا لكي نكتب، ونتأمل، ونمنح ذواتنا فرصة للإنصات. نحن نعيش اليوم في سباق دائم، نجري طوال الوقت خلف الأشياء، خلف الأحداث، خلف الواقع، وخلف الآخرين، وننسى أن نعود إلى أنفسنا.
في إحدى قصائدي القصيرة الأخيرة، كتبت عن إحساسي بأنني أعيش في يوم الإثنين، بينما الآخرون يعيشون في يوم الثلاثاء. تساءلت كيف يمكنني أن أتصرف إزاء هذا الاختلاف في الإيقاع. ربما عليّ أن أتركهم يهرولون كما يشاؤون. لست مضطرا لأن أقتسم معهم هذا الإيقاع السريع كي أصون نفسي. هم في الثلاثاء يركضون بأقدام من مستقبل، وأنا ما زلت في الاثنين، أتلكأ أمام الضوء، مترددا في الممر، غير آسف على شيء.
البطء هنا ليس انسحابا من العالم، بل طريقة أخرى للوجود فيه. أعيش ببطء ما يعيشه الآخرون مهرولين. أتعامل مع الوقت برفق، أربّت على كتفه المرتبك، وأقول له: لا بأس يا صديقي، سألحق بك حين يهدأ العالم قليلا. وأهمس له بشيء لا يمكن قوله بصوت عالٍ، لأن التجربة نفسها تحتاج إلى أذن بطيئة كي تُسمع.
______
تجربتك الثقافية العامة بما حملته من اشتباك مع الواقع والمؤسسات، كيف أعادت تشكيل نظرتك لدور الشعر في الحياة اليومية؟
تجربتي داخل الفضاء العمومي، السياسي والاجتماعي والثقافي، والمسؤوليات التي تحمّلتها في قلب المجتمع المدني، عمّقت علاقتي بالآخرين، وكشفت لي عن عناد الواقع وتعقيداته. في خضم هذا الاشتباك، قد يصل المرء إلى لحظة يشعر فيها أنه مهدد بفقدان صوته الخاص، ولغته الشعرية، بفعل الاندماج والانجرار داخل واقع متسارع ومركّب.
في لحظة كهذه، تصبح الحاجة إلى العودة إلى الذات ضرورة. لا أقصد الانعزال عن العالم أو الانسحاب من الآخرين، بل العودة إلى الصوت الخاص، إلى النص الشعري، حتى لا يضيع. هنا يتحوّل الشعر إلى صديق، إلى قرين، إلى غلاف يحمي الخصوصية، ويصون الكيان الفردي، ويحافظ على الصوت المفرد من الذوبان في الضجيج العام.
الشعر، بهذا المعنى، يصون حريته الخاصة. حين أكتب الشعر أو أقرأه، قصيدتي أو قصائد الآخرين، أستعيد هذه الحرية. تصبح العودة المستمرة إلى القصيدة نوعا من الملاذ، ونوعا من الخلاص، وصداقة مع اللغة، ومع الإيقاع الداخلي، ومع مشهد مقتطع من الواقع، أو منظر طبيعي يُعاد اكتشافه بالكتابة. كل هذه العناصر تجعل من الشعر أفقا، وخيارا، وطريقة خاصة للوجود داخل الحياة اليومية، لا خارجها.
______
أخيرا.. أهناك منطقة في تجربتك تشعر أن القصيدة قادَتك إليها قبل أن تفهمها بالكامل، وما تزال تفرض عليك الكتابة دون أن تمنحك تفسيرا نهائيا؟
أنا سعيد جدا بأنني لا أفسّر كل شيء. في هذه الكيمياء الشعرية المعقّدة، لا ينبغي أن نخضع كل شيء للتفسير أو التأويل. الكتابة الشعرية، والكتابة عموما، هي انخراط في المجهول، نوع من المغامرة التي لا نعرف أفقها مسبقا. نمضي خطوة خطوة داخل هذا المجرى، من دون أن نعرف حقا إلى أين نصل، وحتى حين نظن أننا نعرف من أين أتينا، فإن هذا اليقين يكون هشا.
تجربة الإنسان الحقيقية هي تجربة إخفاق بقدر ما هي تجربة بحث. نحن لا ننتصر دائما، ولا نسيطر على الأشياء، ولا نمتلك ذواتنا على نحو كامل. نحن في بحث دائم عن الذات، وعن الكلمة الملائمة، وعن الجملة التي تستقيم شعريا، وعن علاقة لغوية أو بلاغية تولّد المعنى الذي نحلم ببلوغه. الكتابة تقييد، نعم، لكن المعنى حر، ولا يستسلم بسهولة لإرادة الشاعر.
لهذا لا يعرف الشاعر حقيقة قصيدته كاملة. أتذكر هنا ما يُروى عن كولريدج، الشاعر والناقد الإنجليزي، حين سُئل عن معنى إحدى قصائده فقال: حين كتبتها كنت أنا والله نعرف معناها، والآن لم يبقَ من يعرفه إلا الله. وبابلو نيرودا، حين سُئل عن معنى إحدى قصائده، أجاب بأن من يسأل الشاعر عن معنى قصيدته كمن يسأل النساء عن أعمارهن.
أنا سعيد حين أكتشف أنني لا أعرف المعنى الكامل لبعض قصائدي. أعرف لحظة، أو صورة، أو جملة انطلقت منها، لكنني لا أعرف كل أسرار النص. في القصيدة وعي، لكن فيها أيضا قدرا كبيرا من اللاوعي. أحيانا تأتي صورة من الحلم، أو جملة لا تعرف من أين جاءت، فتتساءل: هل أنا من كتبها حقا؟ وأحيانا تبدأ بفكرة واضحة، لكنها تتغيّر داخل مجرى الكتابة، وتخرج بشيء آخر لم يكن في الحسبان.
هذا يحدث حتى في السرد والرواية؛ الكاتب قد يخطط لبداية ونهاية، لكن العمل حين يكتمل لا يكون هو نفسه الذي تصوّره في البداية. للكتابة سحرها، ومجهولها، ولا نهائيتها. ولو كنّا نعرف أسرار قصائدنا قبل كتابتها وأثناءها وبعدها، لما كنّا شعراء.
