القبول والرضى
01 أكتوبر 2025
01 أكتوبر 2025
في ليلة كأنها قُدَّت من عالم الأدب الساحر، وانتُزعت من تلك براثن السرعة المسيطرة على كل شيء في الحياة، مأكلا ومشربا وعلاقات بالناس ورب الناس؛ تخطر على الإنسان الخواطر، وتتمثل له حياته كيانا قائما بين يديه، فينظر فيها نظرة القبول والرضى، أو الرفض والسخط والأنفة. ولأن عالم اليوم أصبح أقرب شيء إلى تكتُّل كل شيء بيد قلة قليلة تتحكم في مصائر الناس وأرزاقهم، ولم يعد للمرء فأس يحتطب بها، أو أرض تغنيه وتغني عياله، لتحولات العصر وتقلباته، ولصروف الدهر وأحواله. تذكرت في خضم حديث شفيف ليلتها مع صديق عزيز، قصَّة قرأها عارف حجاوي الأديب والإعلامي الفلسطيني المعروف، وكانت تلك القصة تدور حول القبول والرضى. وملخص القصة أن رجلا اتفق مع أحدهم ليعمل له عملا، فلما انقضى العمل؛ أعطى المؤجر العامل أجرته منقوصة وبدأ بسرد العلل في العمل، فقَبِلَ العامل ما أُعطي، ولم يَرضَ.
وهذه القصة ليست محض خيال يحدث لشخصية ما في سابق العصر والأوان، أو لمجرد العبرة والتذكار؛ بل هي تتشكل وتعيد تمثلها في كل عصر من العصور، بالطريقة ذاتها أو بطرق مختلفة.
رجعت -كعادتي في الكتابة- إلى الكتب الأثيرة التي أُحب، علِّي أجد ما قاله ذاك الأديب الفلسطيني، فلم أجده ولا وجدت حديث الأديب ذاته. وفتشت في لسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، وجمهرة اللغة لابن دريد، والمزهر للعلَّامة السيوطي؛ فلم أجد ضالتي إلا في كتاب أساس البلاغة للإمام العلَّامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري حيث يقول في مادة (رضو): «فعل ذلك ابتِغاء رِضوان اللّه ورضاه ومَرْضاتِه، وطلب مَراضيَ اللّه فيما فعل. ورضِيتُه ورضيتُ به صاحبا. وهذا شيء رِضا: مرضيٌّ. وما فعلته إلاّ عن رِضْوَة فلان؛ قال رُوَيْشِد شاعر فزارة:
وقالت بنو قحطان أنتَ تحوطُنا
على رِضْوَةِ الرّاضِينَ والسَّخَطاتِ
وأعطاه حتى أرضاه ورضّاه. واسترضيته: طلبت رضاه. وترضّيتُه بمال إذا طلبت رضاه بجهد منك. واسترضيته: طلبتُ إليه أن يرضيني. وارتضاه لصحبته ولخدمته. وتراضياه، ووقع به التراضي». طبعة دار صادر 1399هـ - 1979م. وأما كتابة الكلمة بالألف المقصورة أو الممدوة، ففي ذلك حديث طويل ذكر شطرا منه صاحب اللسان في مادة «رَضِيَ». وقد أثبتُّها مقصورة لأنها «مصدر رَضِيَ يَرضَى رِضىً فهو مقصور» كما في اللسان.
يمثل «الرضى» إذن تلك الحالة من الطمأنينة في استقبال الأمر والقناعة به وقبوله جملة وتفصيلا، أما القبول فقد يكون موافقة مُقيَّدة أو ناقصة لأسباب كثيرة قد تكون كلها أو بعضها مما يجعل الإنسان يأخذ بها مضطرا لها، فهو يقبل بها ويأخذها دون رضى منه، ولكنه مجبور على ذلك لسبب أو لآخر، وغالبا لفقدان القوة، أو الثمن المدفوع في حالة الرفض. وأتذكر جيدا الموقف الذي اتخذته شركة ما كنت أعمل فيها قبل جائحة كورونا، وكيف تخلص المديرون من الموظفين العمانيين بالضغط تارة، وبالثغرات في أخرى، وكان تلك الحادثة وما تم تعويضنا به من حقوق مسلوبة مدعاة للسخرية، وتجربة قرَّبتنا لفهم الفرق بين القبول والرضى.
إن هذا المفهوم الشائك لم يعد مرتبطا بمسألة مئات الريالات التي يستبيحها المديرون عند التخلص من موظفيهم لتقليل نفقات الشركة أو إحلال العماني بالوافد، ولكنه صار مفهوما يحمل أرواح الناس ويضع رقابهم تحت المقصلة. ففي الثالث والعشرين من سبتمبر المنصرم، وعلى هامش أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بعدة رؤساء ومسؤولين عرب ومن دول ذات أغلبية مسلمة لبحث مسألة وقف الحرب على غزة واستعادة الأسرى وحكم قطاع غزة ونزع السلاح عن حركة المقاومة. ولم يكن من بين ثماني دول أحد يمثل الفلسطينيين لا من السلطة الفلسطينية المتحمسة لإدارة القطاع، ولا من المقاومة التي تجابه العدوان الصهيوني على القطاع، وذلك وفقا لما أوردته عدة وسائل إعلامية موثوقة كرويترز والجزيرة نت، وصحف الاحتلال كصحيفة تايمز أوف إسرائيل. والمطلوب من الفلسطينيين، القبول حتى وإن لم يرضوا!. ففي بنود الخطة ما ينص على أن الرفض سيؤدي إلى «نهاية حزينة جدا» بحسب ما قاله ترمب وفقا لرويترز.
بغض النظر من قبول حركات المقاومة لبنود الخطة أو رفضها، فإن المأساة الفلسطينية تذكرنا بكل ما للشر من معنى وقوة حين يتواطأ معه القريب والبعيد. ففي اللحظة الراهنة، لم تعد مسألة التاريخ نظيرا للرفاهية، أو محاجة يستعملها المطلع في مناظرة ما؛ بل إن ما يُطلب أمام أنظار العالم اليوم، أن يقبل الفلسطينيون والعالم أجمع عودة الاستعمار بأقبح صورة وأكثرها فجاجة ووقاحة. فما معنى أن يتولى مندوب بريطاني -توني بلير- حكم قطاع غزة؟ لن يتوقف الأمر على هذا بالطبع، وإن الغليان الذي يشعر به الناس لا في الدول العربية فحسب، بل في العالم كله، ينذر بمأساة حقيقية لا كاشف لها ولا رادع لها إلا الله.
كتب الصحفي الأردني خير الدين الجابري في منصة X: الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 وبعد الإضراب الكبير الذي أعجز بريطانيا العظمى، لجأ المندوب السامي إلى ملوك العرب للضغط على الفلسطينيين، فقام الزعماء بإرسال نداء إلى الفلسطينيين لفك الإضراب، هذا نصه: «إلى أبنائنا عرب فلسطين، لقد تألمنا للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبدالله ندعوكم للإخلاد والسكينة حقناً للدماء معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم». أجهض زعماء العرب أكبر إضرابات فلسطين وثوراتها التي لو استمرت لم يولد مشروع «إسرائيل». واليوم.. يعلن قادة العرب والمسلمين 2025: «نرحب بجهود الرئيس ترامب الصادقة لإنهاء الحرب في غزة». ولا يجد المرء بعد قراءة هذه السطور سوى الحيرة والتساؤل اللذين يجعلان اليوم كحال الأمس بل ربما أسوأ، فهل يعقل أن يمتلك العرب اليوم ثروات الدنيا وخيراتها، ووعي الشعب ونبوغه، ثم لا يجدون ما يواجهون به نتنياهو وأمريكا على السواء؟
إن خطة ترامب الأخيرة استعمارية فجة وصريحة بلا أي مكياج أو تزويق، فهي لا تعامل غزة باعتبارها أرضا فلسطينية لها شعبها الذي يملكها، بل هي بقعة فارغة يمكن إعادة هندستها. ثم إن محاولة تعيين توني بلير السياسي البريطاني سيئ الصيت هو إعادة تعيين لبلفور ذاته وامتداد للانتداب الكولونيالي. كما أن اختزال الخطة في أمن المحتل وحمايته، لا في حماية المحاصرين من الأبرياء الذين يتعرضون للإبادة بالرصاص والتجويع، لا ينبع إلا من عقلية استعمارية رخيصة لا ترى للإنسان وزنا حين لا يحقق لها نزواتها، فهي تسعى جاهدة لتقديم الضمانات للمُسْتَعْمِر وتمكينه، وتزيد من مصائب ومصاعب الشعب الرازح تحت الاحتلال. وأخيرا، أليس إقصاء صاحب الأرض من الخطة نابعا من عقلية استعمارية أيضا؟ وأين ذهبت فجأة المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة «تساوي الشعوب في الحقوق وحقُّها في تقرير المصير»؟
إن أي مساواة في الخطاب أو الخطط أو الاتفاقيات أو التحليل بين المُحتَل وبين الشعب الرازح تحت قيود الاحتلال ونيرانه بدعوى الحياد أو الموضوعية، يخفي بقصد أو بدون قصد الحقيقة الواضحة الجلية في اللاتناظر بين المستعمر المعتدي، وضحية الاستعمار. وهو تواطؤ محض لا سبيل لتزويقه أو تخفيفه. ومهما رضيت أمريكا والدول الغربية وكل متواطئ مع الاحتلال عما يحدث بحق المدنيين العُزَّل من قِبَل المُستعمِر الذي لا يخفي خططه ونواياه، فإن شعوب العالم الحرة لم ولن ترضى عن ذلك، وليس أدل على ذلك من قافلة الصمود التي باتت على مشارف غزة أثناء كتابتي لهذه المقالة، فهي تضم من الأعراق والأجناس والعقائد ما لم يكن ليجتمع في مكان إلا بسبب الحقيقة الساطعة لمظلومية الشعب الفلسطيني، ولعنجهية الظالم المعتدي ومن يعاونه، ولم تكن الشعوب لترضى إزهاق الأرواح البريئة المشرئبة إلى الحياة، حتى لو قَبِلَ القادة بذلك.
