العــالــم يتغيّـر
يستبين لكلِ متابعٍ لأحداث العالم أن التغيّرات باتت سريعة، تأخذ العالم والبشرية بأسرها إلى ملامح جديدة غير مشهودة من قبل -على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية-؛ فنجد المعسكر الغربي بوجود الحليف الأمريكي -المتذبذب في قرارته- يجهّز عتاده العسكري ويحشد جيوشه لمعركة متوقعة مع الدب الروسي الذي تجاوز الجغرافيا الأوكرانية، فحلقت طائراته -المقاتلة والمسيّرة- في الأجواء البولندية والإستونية والرومانية والدنماركية والنرويجية؛ لتعدّه دول الناتو تجاوزا لا يمكن السكوت عليه، وهذا ما دعا ترامب بإعطاء الضوء الأخضر للناتو بإسقاط المقاتلات الروسية دون ضمانات بتدخل أمريكي مباشر. في جانب الشرق الأوسط المتّشظّي، يواصل الكيانُ الإسرائيلي حربَ الإبادة الجماعية على غزة بدعم أمريكي مباشر، إذ ما زال رجل البيت الأبيض قلقا على مصير ما تبقى من الرهائن الإسرائيليين وجثث الأموات منهم دون أي إشارة إلى الأنفس الفلسطينية من الأطفال والنساء وغيرهم التي تُزهق ظلما على يد حليفه الصهيوني الغاصب، وكذلك تتجدد عنجهية ترامب لتعود مرة أخرى إلى أفغانستان ورغبته الجامحة في امتلاك قاعدة «باجرام» أو حدوث أمر سيء لأفغانستان. نرى في زاوية أخرى استمرار مظاهر الاعتراف بدولة فلسطين خصوصا من قبل الدول الغربية ورفع علمها في بعض مؤسسات غربية حكومية مثل لندن وفرنسا، وبجانب ما يمكن أن نراه لهذه الخطوة من أهمية، فإننا نتوجس منها خيفة، سنبوح بشيء منها لاحقا، ونحتفظ بأشياءَ لا ضرورة بنشرها.
يتعلق موضوع مقالنا بتغيّر العالم الذي ينعكس في عدد من الظواهر كما ذكرناها آنفا، ويمكن أن نجد ترابطا فيما بينها، فالأولى الصراع الغربي الذي يحتمل أن ينتقل إلى مواجهة عسكرية شاملة بين روسيا مع حلفائها وأهمهم -بشكل مباشر- كوريا الشمالية والصين باعتبارهما داعمتين غير مباشرتين للروس وبين الدول الغربية، وعندما نشير بكلمة «شاملة» فمرادنا بحرب عالمية ثالثة تتمثّل بحرب بين دول نووية لا يضمن نتائجها الكارثية، والثانية الصراع في الشرق الذي نراه في صورة حرب إبادة تمارسها إسرائيل، وتستقر معظم التحليلات إلى أن هذه الصورة الأولى لنهاية الكيان الصهيوني الذي لم يعد يجد منطلقات تعاطف عالمية خصوصا من الشعوب التي تعمل على ممارسة الضغوط على حكوماتها، وهذا ما نجده في مواقف حكومية حازمة مثل إسبانيا التي استفردت بقرارات اقتصادية عقابية ضد إسرائيل، وإيطاليا التي أعلن وزير دفاعها تحريك إحدى السفن الحربية الإيطالية -وكذلك أعلنت إسبانيا الخطوة نفسها- لمرافقة أسطول الصمود الذاهب إلى فك الحصار عن غزة رغم ما يعكسه هذا الحراك الإيطالي والإسباني من تضامن شكلي من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- أن يكون ذا هدف عدائي عسكري ضد الكيان الإسرائيلي المحمي من قبل الأسطول الأمريكي السادس الذي يجول في البحر الأبيض المتوسط ويصول. لا يمكن أن نغفل عن الهلوسة السياسية غير المتزنة لترامب وتهديداته التي وزّعها على كثير من خصومه منهم فنزويلا وأفغانستان وغزة -كما جرت العادة- وروسيا والصين ومؤخرا لندن بخوفه من عمدتها المسلم وأسلمة بريطانيا، وبكل وضوح نستطيع أن نلحظ التوازي بين خطابات ترامب وتهديداته المزعجة التي تعكس مستويات النرجسية السياسية وبين مغامرات نتنياهو العسكرية الجريئة في المنطقة التي تجاوزت حدود الأخلاقيات السياسية والضرورات الدبلوماسية خصوصا مع تلميحاته وبعض أعضاء حكومته بالعمل العسكري ضد مصر وتركيا.
ما يجمع كل هذه الأحداث ومظاهرها غير المتزنة أنها تصب في واقعية جديدة لصورة العالم الجديد الذي يُعاد تشكيله وفق أطر وتحالفات جديدة أيضا خصوصا مع عدم فاعلية مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، ولا يمكن التكهّن وإدراك كلِ خفايا هذه النتائج المرتقبة وفق ظاهرها الحالي، فمثلا لا يمكن أن نثق كثيرا ونسارع بإعلان فرحنا العميق باعتراف معظم الدول الغربية بدولة فلسطين، فثمّة أسباب وأهداف تتعلق بهذا الإعلان الذي لا أظنه سيحقق الحلم العربي ويعيد توازن المنطقة، فتعرّض الحكومات الغربية لضغوطات شعبية مناوئة للغطرسة الصهيونية وداعمة للوجود الفلسطيني -الأرض والإنسان- فاقم من مشكلات الغرب الاقتصادية خصوصا في أزمته الكبيرة مع روسيا وعدم التعويل على الحليف الأمريكي ذي المزاج السياسي المتقلب، وحينها نجد أن هذا الاعتراف المنطمس المعالم بدولة فلسطين فاقدٌ لكثير من عوامله أهمها وجود الأرض التي تتقلص كل يوم عبر منهجية الاستيطان والاحتلال العسكري الإسرائيلي ورفض الدول الغربية وجود أي ملامح لدولة فلسطينية ذات سيادة تملك حق الدفاع والمقاومة عن طريق رفضها لأي مستقبل سياسي للفصائل الفلسطينية المقاومة على رأسهم «حماس»، وهنا نتبيّن أننا في فخ جديد لا ينقل القضية الفلسطينية إلا إلى منطقة رمادية لا تتوفر فيها عناصر البقاء أو حتى الولادة التي سبق أن أجهضتها بريطانيا التي وصفها المفكّر اللبناني أسعد كامل رزوق «بأنها القابلة التي ولّدت الكيان الإسرائيلي».
بشكل عام، لا أتصوّر نجاحا للمشروع الصهيوني الذي يعمل على تسريع إعادة تشكيل الشرق الأوسط رغم كل الدعم الأمريكي الذي تجاوز حدود الحسابات الاقتصادية وخسارة الحلفاء وثقتهم، فانتقل إلى المراهنات التوراتية وأوهام سردياتها الصهيونية غير الواقعية، ويدعم هذا التصوّر الغرور الصهيوني المتصاعد الذي تجزم قوانين الحضارات وسننها بأنه أحد مظاهر الاستبداد المفرط -الذي تحدثنا عنه في مقالنا السابق- فقاد إلى إحداث الفوضى العالمية المتمثّلة في اشتعال الغضب البشري، ومآل ذلك انهيار حتمي للمستبد مهما بلغ من قوة؛ فإن للغرور حدودا أشبه بالبالونة غير الآبهة باتساع محيطها والآيلة قطعا إلى الانفجار. من منظور إقليمي آخر، نلحظ تحسنا في الوعي السياسي لدول المنطقة الذي دخل حيّز التطبيق العملي بعد أحداث الدوحة، فنجد التحالفات العسكرية الجديدة بين بعض دول المنطقة مع دول إسلامية قوية التي آثرت التوسّع والتنويع في محافظها العسكرية التحالفية وعدم وضع كل الثقة في السلة الأمريكية الهائمة حد العمى في الدفاع عن مصالح إسرائيل. نعم العالم يتغيّر، ورغم أنّ التغيير الإيجابي لا أراه في صف الحلف الصهيوني الذي تقوده أمريكا، ولا في صف الدول العربية التي ما زالت تعاني من تصدعات حضارية عميقة، وإنما أقرب أن تصبَ في صالح المعسكر الصيني وحلفائه، أهمهم الروس، فالتنين الصيني يعمل بكل ثقل مع الاحتفاظ على سمته السياسي المتصف بالصمت والعمل الجاد.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
