عمان الثقافي

الـمُفرِح في المرارة: غِنى المجاز وسُلطة الرقابة

24 سبتمبر 2025
24 سبتمبر 2025

جوخة الحارثي -

«إذا انفرطَتْ سُبْحتي، فاعذرْ تَقصيري،

فَيدي بِذيل ساقٍ ناعِمِ الساقِ قد أُسِرَتْ

وفي لَيلِ القَدْرِ، إنْ شربتُ صَبوحًا،

فَلا تَلُمْني

فَالحَبيبُ أتى منتشيًا والكأسُ قد نُصِبَتْ»

حافظ الشيرازي

في قلب طهران، في مقهى كان من قبل بيتا تقليديا، بشرفته الصغيرة، ونافورته الطيّبة، وأشجار ساحته المعمّرة، وأثاثه الذي كشف هناءة وفخر العائلة التي سكنته قبل أفول مجدها، التقيتُ بكاتبة إيرانيّة، لم يكن جمالها الطبيعيّ إلّا امتدادا لجمال الطبيعة من حولها، كأن وجهها تتمّةُ ألقِ الياسمين وإشراقة الماء. كنّا نلتقي لأوّل مرّة، غير أنّنا تحدّثنا رأسا في همّنا المشترك: الكتابة.

أخبرتني الكاتبة -ولنسمّها جلنار- أنّ الرقابة في بلادها قد طلبت منها حذف أو تعديل أربعين فقرة في روايتها الأخيرة، قبل السماح بنشرها. كان أوّل ما خطر ببالي أنّها تخلّت عن المشروع برمّته، أو فكرت بنشر روايتها بلغتها الفارسيّة في بلد آخر (وهذا خيار يُعدم العمل تقريبا كما أوضحت لي لاحقا)، ولكن الروائيّة -التي تُرجمت لها أعمال سابقة إلى الإنجليزيّة والفرنسيّة، وربّما لغات أخرى- قالت لي بهدوء وهي ترشف عصيرا محليّا من الزهورات اسمه «مُفرِح»: بل قمتُ بالتعديلات المطلوبة كلّها. نعم، لقد غيّرت جلنار، وعدّلت أربعين فقرة في روايتها القصيرة أساسا.

كيف يحتمل الكاتب أن يُعدم الرقيب، الذي قد لا تكون له علاقة إطلاقا بالأدب، عشرات الفقرات من كتابه، أو يجبره على تعديلها، وإعادة كتابتها بحيث تخلو من أيّ عبارة قد تضايق الرقابة، مهما كانت؟ لكن ما حدث مع جلنار ليس بدعا، لا في إيران، ولا في عُمان، حيث كتبٌ بأكملها ما زالت تختفي من معارض الكتاب، ولا في أيّ من بلاد المشرق، ولا حتّى في الغرب، حيث يتفشّى في السنوات الأخيرة ما يسمّى بـ«الحساسية الثقافيّة»، إذ يُوظّف محرّرون، غير المحرّرين المعتادين، مهمّتهم تنقية النصوص من أيّ إيحاء قد يثير الحساسيّات الثقافيّة لأيّ جهة أو دين أو عرق أو أقلّيّة. وقد تحدّثت عن ذلك بالتفصيل في مقالي «هل توجد فهود في السافانا؟» (ملحق جريدة عُمان الثقافي). وضربتُ مثالا على هذه الحساسيّة باعتراض ناشرتي في نيويورك على كلمة «غجرية» في روايتي «نارنجة»، باعتبارها تمسّ هذه الفئة من الناس. ناهيك عما يحدث في ظل الأنظمة الشمولية، من قمع وكبت وخوف من الفكرة والنص، وقد قرأتُ مؤخرا أن بهوميل هرابال، الكاتب التشيكي المعروف، أجرى جميع التعديلات المطلوبة على نصوصه من قبل الرقابة الحزبية الاشتراكية في بلاده وقتها، بلا نقاش. تساءلتُ كيف مسَّ هذا المقص القاطع عمله «قطارات تحت الحراسة المشددة»، الذي ظلّ فاتنا رغم ذلك؟ وكيف كان شكل العمل قبل تشذيبه الإجباري؟

لنتجاوز الشعور المبدئي بالصدمة والغضب. فكرت في طرح سؤال مغاير: «هل هناك طريقة إيجابية للنظر إلى التقييد الصارم على الكتابة؟» ربما لو علم الكاتب أن هناك حدودا لا يتجاوزها لحاول التعمّق داخل تلك الحدود، بدلا من التوسّع خارجها، أي أنه يبني كتابته رأسيا بدلا من أن يبنيها بناء أفقيا، فيضّطر إلى تفتيح الورد كلّه داخل سياجه نفسه، بدلا من هدم السياج، واستنبات ورد أسهل، فيجتهد في البحث عن مرادفات للكلمات، وبدائل للألفاظ، أي ابتناء معجم خاصّ، ومتفرّد، وإن كان مراوغا بشكل ما. هذا مجرّد افتراض متفائل طبعا، لكنّ هناك شيئا آخر نتعلّمه من الأدب الإيرانيّ نفسه، قديما وحديثا، وهو الاتكاء على عالم كلّي من الاستعارات.

القفز على المشاهد المباشرة إلى مشاهد موحيّة، والتلاعب بالصور، والإيماءات، والإيحاءات، الكتابة في ظلال اللغة لا شمسها، والتعمّق في الاستعارات إلى درجة مدهشة حقّا. ولنا في حافظ الشيرازيّ، الشاعر الفارسيّ الشهير خير مثال. فمع استمرار الجدل إن كان شعره البديع في الغزل والخمرة يحمل دلالات صوفيّة أو لا، نجَت استعارات الشاعر، ونجح في إبداع فذّ، أفلت من الرقابة، التي لم تكن هيّنة في زمانه.

كان حافظ -الذي عُرف بانتقاده النفاق والرياء- مُطّلعا على علم النجوم والموسيقى والثقافة الزرادشتية فضلا عن القرآن وعلوم الدين، وغزليّاته يمكن أن تُقرأ قراءة مختلفة المستويات: مباشرة أو رمزية. إن عبقريّته ونبوغه واستخدامه التورية جعله متجاوزا قيود عصره. فلو كان الأفق مفتوحا للشيرازيّ هل كان سيكدّ ذهنه في ابتداع تلكم الصور الأخّاذة، ومراكمة الاستعارات الباهرة التي شغلت النقاد قرونا من بعده؟ هذا مجرد تساؤل لا يزعم الإجابة بنعم، وإنما يفتح أبواب الاحتمالات.

وعود على بدء إلى صديقتنا الكاتبة، جلنار، التي عدَّلت أربعين فقرة في روايتها قسريًّا، وهو رقم طقوسي كما نرى؛ لقد اعترفت ببساطة أنّها أعطت ناشريها الأجانب النصّ الأصليّ من مخطوطة كتابها قبل التعديل الإجباريّ، أي أنّ النصّ المنشور بالفارسيّة باعتباره أصلا، ليس هو الأصل، وإنّما النسخة المعدّلة عن الأصل، والنسخة المترجمة هي النسخة الأصل! وهذا خبر لطيف لأصدقائنا المهووسين بمراقبة النصوص المترجمة، وتهويل ما صنعه «المترجمون» و«المحرّرون» فيها، فقد يكون التغيير هو الأصل، وقد تكون النسخة باللغة الأمّ هي النسخة المزيّفة، أو بعبارة أخرى، قد يكون اختلاف الترجمة عن المترجَم عنه هو خيار الكاتب نفسه قبل أيّ جهة أخرى. ويحدث هذا لأسباب كثيرة ليس أقلّها تفادي الرقابة في بلده. توافقني جلنار -التي يعمل زوجها مخرجا للأفلام الوثائقيّة؛ ومن ثمّ يعاني كذلك من سلطة الرقيب- أن الرقابة قد تكون سخيفة ولا معقولة، ولكنها -رغم ذلك أو بسببه- تجعل الكاتب، والقارئ من بعده، يقدّر اتساع بحر اللغة المتلاطم، ويقدّر إيماءات النصوص كما يقدّر تقدماتها المباشرة.

والمتابع للسينما الإيرانية يدرك إدراكا واضحا كيف تحلّ الاستعارات في السينما محلّ المشاهد المباشرة، وأتذكّر مشهدا في أحد الأفلام لفتاة صغيرة، ورجل يقف وراءها على مبعدة منها، يتبادلان حوارا قصيرا متوتّرا، وأمامهما بقرة تتعذّب لسبب ما، وكان ذلك مشهدا تصويريّا مشحونا يرمز إلى الاغتصاب، دون أيّ فعل مباشر. وكما نجح مخرجو الأفلام في هذا الإبداع الصعب، آخذين إيّاه إلى آفاق الجوائز العالميّة، نجح الروائيّون والشعراء. حتّى في المواضيع الأكثر إيلاما، مثل الحرب، أو الأكثر حساسيّة، مثل الطائفيّة، لم يتردد المبدعون في تناول هذه المواضيع بأساليبهم التي وإن هدفت أساسا إلى التحايل على السلطة، فإنها أغنت أعمالهم بذكاء بما أحبّ أن أسمّيه موسيقاها العالية، الفريدة.

وكل من يقرأ الأدب الإيراني الحديث يلحظ هذا التكثيف، والإيحاء، والتلاعب باللغة، الذي تصلنا تموّجاته، حتى عبر ستار الترجمة الكثيف. أحيل هنا مثالا لا حصرا إلى رائعة عباس معروفي «سيمفونية الموتى» فكل من يقرأ هذه الرواية بهدف الوصول إلى فحوى الحكاية فيها، يتركها قبل أن يصل إلى المنتصف، والقارئ الذي يطلب من الرواية الأوصاف المباشرة، والتوصيفات القاطعة، لن يفهم ولن يحب هذا العمل العظيم، القائم على السيمفونيات، والإيماءات، والتكرار الذي يلقي ضوءا صغيرا على جزء من المشهد كل مرة، ويغزل خيطا من السرد في أول الرواية مع خيوط في منتصفها وآخرها. إنّنا نستمتع بهذا الفن الجميل، ولكنّنا نعلم أن معروفي قد عانى كثيرا من الرقابة، وصدرت ضده أحكاما بالإعدام والسجن، حتى فرَّ إلى برلين، وقد قال عنه صديقه مهدي شجاعي: «كان عليه الاختيار بين الفرار والقتل، لم يكن هناك طريق ثالث»، لقد أصيب معروفي في أواخر حياته بسرطان الفم، وقد علّل ذلك بفظاعات تكميم فمه، ومصادرة قلمه، وقطع لسانه، فما كان للفم الذي أُخرس إلا أن يسمح للخبيث أن يُعشّش فيه.

جوخة الحارثي روائية عُمانية حاصلة على جائزة «مان بوكر» العالمية