إذا جهّالهم سادوا
16 سبتمبر 2025
16 سبتمبر 2025
«لا يَصلُح الناسُ فوضى لا سَراةَ لهم، ولا سَراةَ إذا جُهّالُهم سادوا».
نعلم أن الجهل هو نقيض العلم، وقديمًا عُرِّف الجاهل بأنه من لا يُحسن القراءة والكتابة. غير أن العرب وسّعوا الدلالة، فأطلقوا وصف «الجاهل» على من لا يُحسن التدبير، ليصبح اللفظ حاملًا لمعانٍ شتّى، تتراوح بين نقص المعرفة وقصور الحكمة. ومن هنا تباينت آراء العلماء والمتعلمين والناس عمومًا حول المعنى الحقيقي للجهل: فهل يمكن للمتعلم المثقف الواعي أن يُوصَف بالجهل أو أن يكون جاهلًا؟ وهل يجوز أن يكون القائد أو المرشد أو المعلم الذي أُنيط به أمر الإصلاح والرشاد غارقًا في الجهل؟ بل هل يمكن أحيانًا أن يبدو الجاهل -ببساطته- أكثر نفعًا من العالِم الغارق في جهله؟
أسئلة كهذه طُرحت على مدى قرون طويلة تمتد بعمر البشرية، وحاول كثيرون الإجابة عنها، غير أنهم غالبًا ما اصطدموا بجدليةٍ أعمق: جدلية العلم والجهل. وهي جدلية أرى -في اعتقادي الشخصي- أن من العسير حسمها بتعريف واحد قاطع، إذ إن الجهل ليس مجرد انعدامٍ للمعرفة، كما أن العلم ليس مجرد تراكمٍ للمعلومات. بل إن الكلمة ذاتها تحمل من التأويلات ما يجعلها عصيّة على التوصيف النهائي، وتظل مفتوحة على قراءات لا تنتهي.
لستُ بصدد الغوص في تفصيل العلاقة بين العلم والجهل، ولا في تعداد أنواعه وصنوفه وأشكاله وألوانه كما أسهب الكتّاب والمفكرون في ذلك. كما أنني لستُ معنيًّا بالتفريق الدقيق بين الجهل والحكمة، إذ قد يجتمعان في صورة واحدة؛ فقد يكون الجاهل ــ بعفويته ــ حكيمًا، بينما قد يكون العالِم ــ رغم سعة معرفته ــ أسيرًا لجهله. غير أن ما يعنيني هنا هو الوقوف عند بعض جوانب الجهل السياسي والمعرفي والثقافي بالأمم والشعوب، وهو جهلٌ يتغذى على غياب الوعي بمسارات التاريخ والجغرافيا والزمان والمكان، كما قد يُغذّيه الغرور والاستبداد والنزعة الاستعمارية.فالتاريخ يخبرنا أن الجهل لا يُقاس بمقدار ما نحصّله من شهادات أو نكتسبه من علوم، بل بما نُجسِّده من أفعال. فكثيرٌ من الذين أبادوا شعوبًا، وأشعلوا حروبًا، وسفكوا دماءً، لم يكونوا من الأميين أو البسطاء، بل كانوا في قمة الهرم العلمي، متوّجين بألقاب أكاديمية، ومحاطين بجيوشٍ من العلماء والمثقفين من المصفّقين لهم. ومع ذلك، كانت ممارساتهم أبعد ما تكون عن العلم الحقيقي وأقرب ما تكون إلى الجهل المدمّر. وهنا تكمن المفارقة: أن الجهل قد يتخفّى في أثواب العلم، ويستتر خلف شعارات الحضارة، لكنه يظل جهلًا في جوهره لأنه يفتقد إلى الحكمة والإنسانية.
ولعلّنا لا نحتاج إلى كثير عناء لنستحضر من صفحات التاريخ شواهد حيّة على ذلك، إذ يحمل التاريخ الإنساني الحديث عبرًا ودروسًا جليلة. فالاستعمار الأوروبي في القرون الماضية قد قدّم نفسه للعالم باعتباره «رسالة حضارة»، بينما هو في حقيقته لم يكن سوى ممارسة فجّة للجهل بمصائر الشعوب وحقوقها؛ جهلٍ بالتاريخ العميق لتلك الأمم التي استعمرها، وجهلٍ بالجغرافيا والخصوصية الثقافية والمعرفية لتلك البلدان. وبعودة بسيطة إلى الماضي يمكننا أن نتذكّر كيف أُبيدت أمم بأكملها في القارة الأمريكية باسم «العمران الجديد»، وكيف تعرّضت إفريقيا لنهبٍ شاملٍ لبشرها وثرواتها تحت شعارات براقة عن المدنية والتحديث. وفي أوروبا نفسها، لم تكن الحروب الكبرى سوى نتاج سيادة جهّالٍ اعتقدوا أن القوة وحدها كفيلة بإخضاع العالم، فساقوا الملايين إلى محرقة حربين عالميتين أكلتا الأخضر واليابس. وينطبق هذا الحديث على كل الأمم التي حكمها جُهّال ساقوا شعوبهم وشعوب العالم أجمع إلى التهلكة.
وفي زماننا الحاضر، نرى المثال الأكثر سطوعًا على سيادة الجهل والجهّال فيما يقوم به نتنياهو من تطهيرٍ عرقيٍّ ممنهج ضد الشعب الفلسطيني، مدعومًا ومؤازرًا من بعض من يُسمّون أنفسهم علماء ومثقفين وحكماء. غير أنّ ما يرتكبونه لا يمكن أن يجد له المرء أي تبرير أخلاقي أو إنساني سوى الجهل وحده. جهلٌ بالتاريخ الذي يروي بمرارة ما فعله الجهّال باليهود أنفسهم عبر القرون، فإذا بهم اليوم يكرّرون الجريمة ذاتها على شعبٍ آخر مظلوم، وكأن الدرس لم يصل بعد، وكأن المأساة لا تكفي لردعهم.
إنّ الجهل هو الذي يدفع قطاعات واسعة من الإسرائيليين إلى تصديق ما تقوله لهم حكومتهم، وهو الذي يجعلهم يغضّون الطرف عن الحقائق الدامغة التي تفضح بشاعة ما يُرتكب باسمهم. وما يزيد الأمر فداحة أنّ هذا الجهل لا يقف عند حدود الدولة الفلسطينية، بل يتمادى في إشعال فتيل حربٍ كونيةٍ جديدة قد تمتدّ إلى مناطق واسعة من العالم، فتكون عاقبتها وخيمة على البشرية كلها.
كم نحن اليوم في حاجةٍ ماسّة إلى سراةٍ حكماء، متعلمين وواعين، يُدركون حقائق التاريخ ويقرأون دروسه بعمق، ويقفون بثباتٍ في وجه الجهل والجبروت والطغيان. فالأمم لا تنهض إلا إذا تصدّر عقلاؤها الصفوف، وتراجع الجهّال عن سُدّة القرار. حينها فقط يمكن أن تستقيم حياة الناس، ويعلو صوت الحكمة على صخب الفوضى.
عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة «عُمان أوبزيرفر»
