هل بالغنا في تمجيد الذكاء الاصطناعي؟

06 سبتمبر 2025
06 سبتمبر 2025

أقللت مؤخرا من نشر مقالاتي المعتادة عن الذكاء الاصطناعي مستجداته وقضاياه، وانصرفت عنها إلى مقالات تحمل صبغة سياسية أو مجتمعية-ثقافية تتقاطع مع الأوضاع الراهنة ومتغيراتها. ولم يكن ذلك زهدا مني أو تراجعا عن طرح ما يستجد في الساحة العلمية؛ إذ ما زلت أعمل في هذا الحقل، وأطالع كل مستجداته، وكذلك لا أدّعي أنني تحولت إلى السياسة وولجتُ إلى عالمها بكل ثقل إلا بما يقتضيه الواجب تجاه ظروف منطقتنا العربية المؤلمة، وإنما لم أجد طفرات رقمية تستحق الطرح والتفاعل، ولكن بقيت متابعا لكل ما يُطرح من مقالات وآراء تخص عالم الذكاء الاصطناعي، وما يرتبط به أو يشبهه من التقنيات الرقمية المتقدمة. فوجدت تفاعلات يمكن أن أصف بعضها بالدخيلة؛ نظرا لشوائبها العلمية التي خالطت مفاهيم الذكاء الاصطناعي وآلية عمله، وكان من ذلك أن يوحي بعضُ من يكتب عن الذكاء الاصطناعي أن كائننا الرقمي ذو وعي مستقل يمكّنه من صناعة الأفكار، وعركها عركا عقلانيا وعاطفيا يفوق قدرة البشر، فأثار ذلك حفيظتي بخصوص عدم عقلانيةِ الذكاء الاصطناعي، وافتقاده لكثيرٍ من مفاصل الذكاء المهمة، وأقرب ما يمكن أن نستشهد به في هذا المعترك ظاهرة الكتابة بواسطة الذكاء الاصطناعي التي أخذت تعصف ببعض الكتّاب المغمورين بحب الكتابة خصوصا المبتدئين منهم؛ إذ بات من السهل أن نميزَ بين النص البشري الصميم المملوء وعيا ويفيض بفكر صاحبه وتجلياته وبين نص يتمطط بمفرداته الفاقدة للوعي الوجودي والعاطفي، وكأنه تجميعة صناعية فاقدة للجودة. هنا لا بد من عودةٍ إلى ما سبق أن أشرنا إليه؛ فالذكاء الاصطناعي -بكل اختصار- تقنية تعتمد الخوارزميات الرياضية المتصلة ببيانات خارجية كبيرة تتمحور آلية تشغيلها على عامل التدرّب والتنبؤ، وليس الإبداع والذكاء بمفهومه الصميم، وتكون المنظومة البرمجية الحاضنة المهمة لتفاعلات هذا النموذج الذكي. أرجو ألا يُفهم من كلامي هذا أنني من الزاهدين في الذكاء الاصطناعي والمنصرفين عنه؛ فما زلت أواصل العمل البحثي التطبيقي في مجال الذكاء الاصطناعي، وآخرها ما نشرته مع فريقي البحثي في «IEEE» قبل شهرين فيما يتعلق بتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصناعة وآلاتها، ولكن منطلقات الموضوعية تحتم أن نصرّح بأننا تخطينا عتبة الدهشة بالذكاء الاصطناعي، واعتدنا كل مفاصله التي لا أجد فيها عنصري الرهبة والرغبة مثلما كان في السابق.

ما استطعت ملاحظته أن كثيرا من الكتّاب مؤخرا تناولوا مصطلح «الذكاء» باتساع مفرط تجاوز في أحايين كثيرة واقع ما نطلق عليه بـ«الذكاء الاصطناعي»، وهنا لست في معرض التراجع عن قولي: إن نماذج الذكاء الاصطناعي في كثير من قدراتها فاقت القدرات البشرية بما فيها العمليات الرياضية والبرمجية والإبداع الفني واللغوي، ولكن ما يبقى مميزا عند الإنسان ذكاؤه العاطفي الذي يعكس معنى الوعي والمعنى المفقود عند نماذج الذكاء الاصطناعي. ويعيدني ذلك إلى مقالٍ لي كتبته ونشرته قبل ما يقرب من ثلاث سنوات بعنوان «الذكاء الاصطناعي ليس عقلا»، وما زلت على إقراري السابق أن الذكاء الاصطناعي ليس عقلا، وتتضمن العقلانية فيما أعني الوعي الذي تدخل العاطفة وذكاؤها في فضائه الكبير.

لا أنكر أن نماذج الذكاء الاصطناعي أظهرت حتى وقتٍ قريب مزيدا من عضلاتها الخوارزمية الذكية؛ فأحدثت النماذج اللغوية قفزة متسارعة في قدراتها التوليدية وفق مبدأ التنبؤ النصي الذي سبق أن شرحنا آليته الرياضية، ونجد -مثلا- نسخة «شات جي بي تي» الخامسة التي أخمدت دهشةً مرتقبةً عند كثير من الخبراء باعتبار أن النسخة الخامسة تحمل في طياتها شيئا مما كنا نُطلق عليه «الذكاء الاصطناعي العام»؛ فظن أنها ستأتي بما لم يأتِ به البشر والنماذج السابقة من قدرات لغوية واعية، ولكن لم يكن ذلك التوقع ليتحقق؛ فجلّ ما رأيناه تطورا طفيفا في هذه النسخة ليثبت أن الخوارزمية أبقت على دهشتها الأولى التي جاءت بها إلى المجتمع البشري بحلول عام 2023 ولم تغادر موقعها الأول إلا ببضع خطوات تطورية. ويُرجعني هذا أيضا إلى مقال لي نشرته في نهاية العام المنصرم بعنوان: «هل تقلصت دهشة العالم بالذكاء الاصطناعي؟»، فتأكد لي يومها أن الدهشة تلاشت، وأننا على موعد مع دهشة علمية أخرى أقرب ما تكون إلى الحقل البيولوجي المرتبط بالأنظمة الرقمية بما فيها الذكاء الاصطناعي الذي يحاول أن يعيد للإنسان شيئا من ذكائه المسلوب، فيحفّز في دماغه مكامن الإبداع والعبقرية المثبطة بواسطة الاستعمار الرقمي، فأفرطنا في وصفه بالذكاء في حين أنه بعيد كل البعد عن العبقرية المُفرط في وصفها.

لهذا من المفارقات العجيبة أن يظن بعضنا أن التفوق الرقمي سيبقى محصورا في الذكاء الاصطناعي ونماذجه المنبثقة في حين أن التقدّم العلمي لا يقف عند محطة واحدة فينتهي، وإنما نجد الذكاء الاصطناعي -بكل ما يحمله من تفوق- بأنه أحد مخرجات هذه الثورات العلمية وليس أعلى قمتها، ويأتي كلُ مُخرجٍٍ علمي بدهشته الزمنية الخاصة به، وما إن يتجاوز لحظته فإنه يتابع مشواره بكل ما يجود به من مستجدات لا تتجاوز في غالبها ما كان في حيزوم شرارته الإبداعية الأولى، وبات اليوم من السهل لأي إنسان مغمور بالتقنية أن يستعمل الذكاء الاصطناعي بكل يسر سواء في هاتفه أو حاسوبه أو سيارته الجديدة، ويتجاوز الأمر أنه يستطيع أن يتبنّى -إن ضاعف حماسه وجهده- مشروعَ بناء نموذج للذكاء الاصطناعي -ولو بطابعٍٍ بدائي- بتوفّر عوامل البناء، وأهمها البيانات المغذية لهذا النموذج، والتأسيس البرمجي المتطلب حاضنة تشغيلية وتخزينية، ومدخلات خوارزمية رياضية، وما أسهل ذلك في ظل الدعم الذي يمكن أن يتوفّر عن طريق النماذج الذكية المنتشرة! لا أرغب في الاستعجال بترجيح احتمالية وهم مصطلح «الذكاء الاصطناعي العام»؛ فبدت لي مؤشرات جديدة لم تكن واضحة عندي من قبل تدل أننا ربما أفرطنا في تمجيد الذكاء الاصطناعي وتحجيم قدراته، وستكون هناك مساحة كتابية خاصة مستقبلا -بإذن الله-؛ لتبيان هذا الأمر، ومرافعات استدلالاته.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني