بيرس ديكنز
أينما ولى المرء وجهه في عالم اليوم، لا يجد بدا ولا محيصا عن السياسة قراءةً، ونقدا، أو حديثا عابرا. وفي عالم اليوم الذي لم يعد على صفيح ساخن كما اعتاد الأدباء والمنظرون القول، بل صار في قلب الانفجار الذي لا يعلم المرء متى يُحرقه أو يصيبه شرره على الأقل. ومثلما يتطور كل شيء، تطورت طرق الحق والباطل على السواء، وانشطرت المفاهيم لتغدو أكثر ضبابية وأنفع للذي يلوّح بها؛ فهي نافعةٌ تارة، وضارة أخرى، وفقا للسياق الذي تكون فيه ولواقع الحال والمكاسب المترتبة على كل ذلك. لم يكن العالم الغربي نشازا في تضبيب المفاهيم والرؤى وفقا لمصالح النخب المنتفعة والطغم الحاكمة بفعل الاقتصاد والمال والنفوذ وصعود الأصوات النافعة التي يتم تصديرها في المشهد باعتبارها رأس الحربة والواجهة الفاعلة، وهي في الحقيقة مجرد ماريونيت في شكل إنسان يتم استعمالها فترة، ثم يطويها النسيان. وهذا ليس مقتصرا على السياسيين فحسب، بل تعداه إلى باقي الجبهات النافعة التي تصب في مصلحة المحرك الرئيس للمشهد، ومن هذه المحركات الإعلام بطبيعة الحال.
يتحدث العلم بلغة الأنماط لا الحالات الفردية، فكما هو مشهور في تلك العبارة الأثيرة «لكل قاعدة شواذ»، فإن العلم يتبع القواعد، ويرصد الشواذ وتكرارها. فإن تكررت الشواذ، صارت قاعدة، وإن لم تتكرر فيتم تصنيفها باعتبارها حالا فردية لها محركاتها الداخلية الخاصة. وهذا ينطبق على مناح كثيرة أخرى، كعلم النفس، والاقتصاد، والسياسة، والإعلام مرة أخرى.
لم تكن الكتب مجرد وسيلة ترفيهية فحسب، أو اسما في الهواء لنيل الشهرة، والمكاسب، والحظوة الاجتماعية، بل كانت في كثير من الأحيان العين البصيرة التي ظلت مفتوحة رغم الدمع والدم، فهي عين لم تُغمض يوما عن المجازر والوحشية التي يرتكبها الإنسان في بني جلدته، ولم تنس أن تذكرنا بالنمط الذي يتكرر مرة تلو أخرى في ماريونيتات -الماريونيت هي دمية يتم تحريكها بالخيوط وتتحكم بها يد خفية لا تظهر في المشهد عادة- في أزمنة متعددة. لذلك كان من واجب قوات الاحتلال الصهيوني قتل الصحفيين بوحشية، فهم نظير الكتب في وقت كان الكتاب يوازي الكاميرا التي ترصد المشهد كما هو، ببؤسه وظلمه ووحشيته، دون مكياج أو تزويق.
في كتابه غير المترجم «الهولوكوستات الفيكتورية المتأخرة: مجاعات النينيو وصناعة العالم الثالث»Late Victorian Holocausts: El Niño Famines and the Making of the Third World يتحدث مايك ديفيس Mike Davis عما فعلته بريطانيا -العظمى آنذاك- في شبه القارة الهندية وسياساتها التي أدت لمقتل ما بين 5 إلى 8 ملايين إنسان، في واحدة من الإبادات الشنيعة في التاريخ الحديث، التي لا يرد ذكرها إلا على استحياء، لأنها مرتبطة بأحد الأطراف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، ولم ترتبط بالنازية الخاسرة أو العثمانية البائدة أو السوفييتية المواجهة للغرب ندا لند، وإحدى القوى التي ارتبطت بالاستعمار الوحشي منذ قرون حتى أنتجت آخر المسوخ الاستيطانية الإبادية، الكيان الصهيوني. في كتابه الضخم الصادر عام 2001م، الذي يناهز الخمسمائة صفحة يرصد المؤرخ الاجتماعي الأمريكي ديفيس المجاعات التي لم تكن نتاج كوارث طبيعية لا دخل للإنسان بها أو لا سبيل لمواجهتها؛ بل هي نتاج مباشر للسياسات التي انتهجتها الإمبراطورية الاستعمارية في تلك الفترة. فلم تكن المجاعة التي قضت على الناس بسبب عدم وجود الغذاء أو توفره، بل كان يتم تصديره للأسواق العالمية بكميات مهولة، في حين تُرك الفقراء الضعفاء فريسة للموت المحتوم أمام الضربة الكاسحة ليد السوق الخفية، أو للسبب الوهمي الآخر «حرية التجارة»، بل كان موتا وإبادة تمت هندستهما باحتراف قاتل متسلسل لا تصل إليه الأيدي ولا القيود. ففي فترة المجاعة التي ضربت الهند بين عامي 1876 و1878، لم توقف حكومة الاستعمار تصدير القمح والحبوب من الهند إلى بريطانيا!، بل إنها لم تكتف بهذا الأمر فحسب، فقد استمرت في عمليات التصدير وكأن شيئا لم يكن، في الوقت الذي ضرب الجفاف ضربته وانهارت المحاصيل بشكل كارثي. ففي الوقت الذي يموت فيه المضطهدون جوعا وهم يرون أرضهم تغتصب وتسرق خيراتها، كان السارق يترقب ما سيحصل عليه من عوائد لمسروقاته، في عملية تتزيا بزي «التجارة» وفقا لقانون القوي المهيمن.
وكما يحدث اليوم في غزة تماما، وفقا لتصريحات رئيس الاحتلال «حماس تسرق المساعدات» ولتصريحات وزراء حكومته المتطرفة التي تربط الأمر بهلاوس دينية وتنسب المقتلة إلى الإله ذاته؛ كانت التبريرات الاستعمارية مشابهة لذلك. فكان التبرير الديني والحضاري حاضرا بقوة في شرعنة المجاعة التي حصدت أرواح الأبرياء باعتبارها ابتلاء إلهيا وحكمة لا يعرف سرها الإنسان الضعيف محدود التفكير. أما العلم الذي كان صولجان التبرير الحديث، ومِشرط الحقائق المشوهة بيد السلطة؛ فقد ادعى أن التدخل لوقف هذه المجاعة سيسبب ضررا اقتصاديا، وسينهار السوق إن حدث التدخل المأمول من حكومة الاستعمار، ولم يكن -بالطبع- هدف بريطانيا الأرباح الهائلة والمحافظة على صادرات الإمبراطورية «حامية الحريات» في أسقاع المعمورة. فلم يكن هدف هذه الإمبراطورية -وما شابهها في حينه، وما تلاها- الاستفادة من المستعمرات ونهب ثرواتها وتصديرها إلى أوروبا -والعياذ بالله- بل كان ذلك لزاما في سبيل تشكيل النظام العالمي الجديد والاقتصاد الذي سيحمل سفينة الشعوب إلى الرخاء والحرية -وكأن الشعوب الفقيرة ترسن في أغلال ذاتها!- والغد المشرق.
في ذلك الوقت العصيب، كان لزاما أن تظهر مزامير عالية تخفي أصوات الجائعين، أو بعبارة أصح المجوّعين الذين ينتظرون مصيرهم المحتوم بقلة حيلة، وفقدان كامل للقرار أو القوة أو أي سبيل آخر ينجيهم مما يرونه رأي العين، الموت الوشيك. وفي استطراد سريع، نحن ننسى أحيانا أن النظام الديمقراطي الذي كان ينبغي أن يكون في خدمة الشعب، تحول إلى طريقة أخرى لتركيز السلطة والنفوذ في يد ثلة قليلة تبقى ثابتة حتى وإن تغيرت الدمية التي يتم تصديرها للمشهد باعتباره «المنتخب» و«ممثل الشعب»، والتي تكون في الغالب -أي هذه الثلة- أصحاب الأموال وعصب السوق في الدولة. لذلك كان ولا يزال الخوف والخشية من نهضة الشعوب في مواجهة قادتها الذي يخدمون أجندة لوبيات خارجية تخدم مصالحهم الذاتية لا مصلحة الوطن أو الدولة؛ خوفا يستدعي التنفيس.
ففي الوقت الذي كاد يعلو فيه صوت المعذبين في الأرض، انبرى تشارلز ديكنز كما وثق ذلك كل من البروفيسورة جريس مور Grace Moore في كتابها Dickens and Empire «ديكنز والإمبراطورية: خطابات الطبقة والعرق والاستعمار في أعمال تشارلز ديكنز» المنشور عام 2004، والبروفيسور مايكل سليتر Michael Slater في سيرته الذاتية الموسعة عن تشارلز ديكنز أعماله وحياته؛ ليكتب رسالة إلى أنجيلا بوردت-كوتس (Angela Burdett-Coutts) مؤرخة بشهر يونيو من عام 1857 يقول فيها إنه يتمنى لو أنه كان القائد الأعلى في الهند، ليري الهنود أن أول ما كان سيفعله بحق هذا «العِرق الشرقي» -وفق عبارته- إبادتهم من هذه الأرض!. هذا المصلح الاجتماعي الذي كتب روائع أدبية خالدة مثل أوليفر تويست وقصة مدينتين، كان مصلحا اجتماعيا ومساندا للفقراء في حدود وطنه، أما أولئك «الشرقيون» فلا يستحقون سوى الإبادة لوقوفهم ضد حكومته التي تستعمرهم وتنهب خيرات بلدهم!. فصاحب الضمير الإنساني المرهف، يعمل وفقا للمكان والعرق الذي يتعرض للاضطهاد، ووفقا لما يتم تعريفه بأنه اضطهاد؛ أما حين يتعلق الأمر بصاحب السلطة الذي ينضوي تحت لوائه، فإن أفعاله تلك ليست إلا تأديبا ومحاولة لنشر الحضارة والرقي والتطور للأعراق «الشرقية» خصوصا.
لا بد من تنفيس الغضب المحتقن للشعوب في الداخل بأصوات تبدو وكأنها مناهضة لأصحاب السلطة والنفوذ، بينما هي في الحقيقة قطعة من المسننات التي سيتم تبديلها بعد أن تتآكل ليستمر المحرك في العمل كما ينبغي لأصحاب السلطة واللوبي المنتفع. هكذا ينبري البريطاني الآخر بيرس مورجان الذي كان الصوت غير الرسمي للإبادة في أول الأمر، ليبدو الآن وقد امتلأت شوارع المملكة المتحدة بالمظاهرات وبدأت الرواية الصهيونية تفقد بريقها وانجلى عنها الغشاء، وصارت الغالبية العظمى من الشباب داعمة لفلسطين والفلسطينيين في دفاعهم عن أرضهم ووطنهم ومقدساتهم؛ بأنه الصوت الذي ينتقد الاحتلال ومنهجيته المفضوحة في الإبادة على الهواء مباشرة!. فهل ستعي الشعوب يوما ما يمثله هؤلاء المنتفعون الذاتيون، والمشرعون لأبشع جريمة يرتكبها إنسان «القتل» وإبادة أخيه الإنسان، ليوقفوا أنهار الدم المفزعة أم أن «العِرق الشرقي» يستدعي مزيدا من «الجحيم» كما في تغريدة عالم النفس الكندي-الأمريكي جوردان بيترسون في دعمه لجرائم الاحتلال في بداية عدوانه؟
علاء الدين الدغيشي كاتب وشاعر عماني
