ماذا تبقى من حل الدولتين؟

18 أغسطس 2025
18 أغسطس 2025

إن أي خطاب لا بد أن ينطلق من أنماط معرفية وفكرية معينة لا يُمكن فصلها عنه، وهكذا يرتبط الخطاب الإسرائيلي بالأفكار التوسعية التي حافظت عليها جميع الأحزاب تقريبًا. ولم تسع إسرائيل لترسيم حدودها؛ من أجل البقاء دائمًا في احتمالية التوسع لضم أكبر وأكثر مناطق ممكنة سواء من الأراضي الفلسطينية، أو من أراضي دول الطوق وخارجها. وهكذا ينبئ تصريح نتنياهو الذي ذكر فيه «إسرائيل الكبرى» عن الحالة الفكرية والأيديولوجية التي يعيش فيها العقل الصهيوني، ولا يُمكن فصله عنها. وهنا يتبادر سؤال مهم حول هذه المسألة هو: ما الذي تبقى من حل الدولتين الذي تتبناه كثير من الدول، منها تقريبا كل الدول العربية التي تدعو لحل سلام شامل يُمكن تطبيقه فرضيًّا من حل الدولتين؟ إن حل الدولتين يقع في معتركين بين إمكانية التفاوض لتطبيقه مع غياب توازن القوى، وبين استحالة تطبيقه؛ إذ إن الحل ليس قريبًا من الإمكانية الواقعية. فالإرادة الإسرائيلية بجميع تصرفاتها تنبئ عن عكس ذلك؛ فإسرائيل لا تريد أن يكون هذا الحل، ويُمكن تبين ذلك من خلال خطاباتها، أو من خلال سلوكياتها السياسية والعسكرية في فلسطين والمنطقة. وقد بقي الحل في حالة من رفع الشعارات اللفظية أو الخطابية دون خطوات فعالة لتطبيقه، وكذلك ترفضه الإرادة الفلسطينية والعربية الشعبية التي تنظر إلى الوجود الإسرائيلي بحد ذاته تهديدًا لها على الرغم من تبني الدول له؛ ولذلك بقيت الدول العربية والمجتمع الدولي تسهم في استمرارية وتعميق الشعور بإمكانية تحقيق هذا الحل على الرغم من استحالته الواقعية.

إن البعد الاستيطاني في الفكر الصهيوني لا يرتبط بفلسطين لوحدها، وإنما يتعدى ذلك لتحقيق ما يسميه إسرائيل الكبرى. وعلى الرغم من تعاقب الحكومات الإسرائيلية والتعددية الحزبية التي تعيش من خلالها الحياة السياسية في إسرائيل، إلا أن هذه الفكرة بقيت موجودة تزيد وتخفت بين اليمين واليسار، إلا أنها لا تختفي. وإذا أخذت هذه الفكرة على سبيل الدراسة يُمكن إيجاد أن التناقضات التي تصنعها الائتلافات داخل إسرائيل فيما يتعلق بها واضحة جلية. فعلى سبيل المثال؛ في الائتلاف الأخير الذي حصل بين مجموعة من الأحزاب المتناقضة أيديولوجيا وسياسيا للإطاحة بحزب الليكود، فضم هذا الائتلاف حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف برئاسة نيفتالي بينيت، وحزب هناك مستقبل اليساري برئاسة يائير لابيد، وهو ائتلاف لم يكتمل؛ بسبب التضاربات الصارخة التي حملها، إلا أن الفكرة ظلت باقية ولم تتغير؛ لوجود أحزاب يسارية في هذا الائتلاف. ولذلك بقيت الفكرة التوسعية موجودة؛ لأنها ركيزة أساسية في الفكر الصهيوني عامة. ومن هنا يُمكن استنتاج أن الفكر الإسرائيلي لا يقبل بحل الدولتين؛ لأن إسرائيل قائمة على التوسع لا على قيام دولة بحدود واضحة وطبيعية. ولذلك ففي الفترات الأخيرة بدأت الخطابات تنادي أولا باحتلال الضفة الغربية، ثم احتلال غزة، وصولا إلى المناداة بإسرائيل الكبرى التي يحلم بتحقيقها جميع الساسة الإسرائيليين. وأزعم أنه حتى هذه الحدود الموضحة في إسرائيل الكبرى لن تكفي الجشع الإسرائيلي، بل لو حققتها ستطالب بالمزيد من الأراضي؛ لرغبتها في العودة إلى الدولة الإمبراطورية التي تجاوزها الزمن أساسًا.

المناداة بتحقيق السلام من خلال وجود إسرائيل يعرّض البراغماتية السياسية لأزمة بدائل؛ فكما يقول جون ميرشايمر: إن هناك أربعة مسارات أو سيناريوهات أساسية للقضية الفلسطينية، هي: حل الدولتين، وهو ما لا تقبل به إسرائيل، وحل الدولة الواحدة ذات الطبيعة الديمقراطية، وهو ما لا تقبله إسرائيل كذلك؛ بسبب الديموغرافية الفلسطينية التي ستحول الدولة في النهاية إلى دولة فلسطينية، وحل استخدام السلاح النووي الذي لا يُمكن لإسرائيل فعله -رغم رغبتها فيه-؛ لأنها ستضر بنفسها وشعبها، وحل الإبادة الجماعية الذي تقوم به منذ قرابة السنتين؛ لإنهاء السيطرة الديموغرافية الفلسطينية. ولذلك فإنها في كل الأحوال تبقى عالقة في أزمات خارجية وداخلية. أما الخارجية فهي لا تشمل إسرائيل بحد ذاتها، وإنما المجتمع الدولي، والمنظمات الدولية، والقانون الدولي بشكل عام.

وأما الداخلية فهي تزايد الهجرات والمعارضة؛ لعدم الاهتمام بالأسرى في غزة، والكثير من الأزمات السياسية الأخرى الذي ليس هذا موضعها؛ لذلك تحاول إلهاء الداخل بدغدغة المشاعر والخيالات فيما يتعلق بإنشاء إسرائيل الكبرى، وهذا يعرضها لمشكلات وأزمات أخرى. وفي كل الأحوال فإن هذه النزعة التوسعية تعني أن هناك رغبة في استمرارية الصراع؛ فتوسع بلا نهاية يعني صراعا بلا نهاية، سواء مع الفلسطينيين أو مع دول وشعوب المنطقة.

يروج لهذا المنطق ضمن ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد، وهو إعادة رسم المنطقة بما يتوافق مع منطق القوة. فغياب توازن القوى في المنطقة يجعل إسرائيل قادرة على التهديد والتنفيذ في الوقت ذاته؛ ولذلك فإن اكتفاء الدول العربية بالبيانات والتنديدات ليس مجديًّا؛ لأن تنفيذ احتلال الضفة وغزة يعني أن الدور قادم لكل الدول المحيطة. لذلك عليها أن تبدأ بالخطوات السياسية الفعلية على الأقل؛ فبقاؤها في حالة البيانات والخطابات اللفظية يعيدها مرة أخرى إلى منطقة تغييب الدور الحقيقي لهذه الفاعلية العربية، وكأنها غير معنية وغير متضررة بالأمر.

إن الصراع مع إسرائيل في الوقت الحالي قد تطور من صراع حدود إلى صراع وجود؛ فهل نشهد نهاية لحل الدولتين؟ وماذا تبقى منه مع كل هذه التطورات؟ هذه أسئلة بحاجة للبحث، لكن الدول العربية ليست الآن في حالة الترف في التعامل مع إسرائيل، بل في حالة من الحفاظ؛ إذ لا يُمكن التعامل مع هذه الخطابات بحسن النية، بل يجب أخذها على محمل الجد، والعمل بجدية على وقف العنجهيات الإسرائيلية.

ومن هنا فإن استمرارية المناداة بحل الدولتين يعتبر انفصالاً عن الواقع الذي تحتمه المتغيرات السياسية في المنطقة، ولا يكفي فقط المطالبة بالعودة إلى حدود 1967؛ إذ أصبح واضحًا وضوح العيان أن إسرائيل لن تفكر بالعودة شبرًا واحدًا في أراضيها، لكن في اللحظة الراهنة من المهم التعامل مع الوجود الإسرائيلي الجاثم في صدر المنطقة بحد ذاته، والوقوف في وجه استمرارية سياسات الإبادة الجماعية، والتوسع، والتجويع بصرامة؛ حتى تحافظ هذه الدول على وجودها وأمنها على الأقل، ووقف استمرارية التهديدات لاحتلال مناطق أو دول أخرى. وعلى الرغم من أن هذا بشكل ما لا يُمكن تحقيقه في الوقت الحالي على الأقل -أي احتلال دول أخرى- إلا أن التهاون في الأمر يفضي في نهاية المطاف إلى إمكانية العمل على تحقيقه؛ فرفع العلم الإسرائيلي في مظاهرات السويداء مثلاً يشير إلى تطور خطير في مسارات المنطقة المستقبلية. 

جاسم بني عرابة كاتب عُماني