الابتكارات الإنسانية.. بين الواقع والانطباع

22 يوليو 2025
22 يوليو 2025

في عالم تتسارع فيه التكنولوجيا والمعرفة إلى أوج تقدمها، لا تزال البشرية تعاني الصراعات والتوترات، لذلك يُعد الابتكار الموجه للعمل الإنساني أمرًا حيويًا من أجل التخفيف من حدة الآثار السلبية لتصاعد الأزمات، وبناء القدرة على الصمود، لا سيما في ظل تناقص الموارد، وتحديات الوصول إلى أهم الاحتياجات الأساسية وهي الغذاء والمأوى والدواء. فهل حان الوقت للخروج من وضع «الابتكار لأجل الابتكار» إلى تعزيز منظومة الابتكار في المشهد الإنساني بأكمله؟

في البدء لا بد أن نتوقف عند واقع الابتكارات الإنسانية التي تركز على تطوير أفكار وحلول جديدة لاتخاذ تدابير وقائية قائمة على الإنذار المبكر، ولتحسين فعالية وكفاءة تقديم المساعدات الإنسانية أثناء الأزمة، وتمكين المجتمعات المتضررة لإعادة البناء بعد انحسار الأزمة، وبالتالي فإن هذا النوع من الابتكارات يسعى لمعالجة التحديات الفريدة التي تواجهها السياقات الإنسانية قبل وأثناء وبعد حدوث الأزمات والحالات الاستثنائية.

وعلى الرغم من أهميتها الكبيرة، لا تزال الابتكارات الإنسانية استثناءً وليس قاعدة. وهنا تنشأ معضلة عدم الاتساق بين ما وصلت إليه البشرية من تقدم علمي هائل، واستمرار التحديات الناتجة عن الصراعات والحالات الطارئة والأزمات. وإذا تأملنا مجالات وأولويات الابتكار في وقتنا الراهن سنجد بأن معظمها يتمحور حول التقنيات المتقدمة للثورة الصناعية الرابعة، وحتى تلك الابتكارات المرتبطة بالأمن الغذائي والمائي، وتكنولوجيا الطاقة والتي تبدو ظاهريًا وكأنها طوق النجاة في الأزمات، إلا أنها في الواقع ليست موجهة لتحقيق نتائج جوهرية وسريعة للمتضررين من الأزمات. وهذا يفرض أهمية إعادة تعريف أجندات الابتكار، وتضمين الابتكارات الإنسانية في قمة هرم الأولويات.

وهذا يقودنا إلى النقطة الأساسية، وهي ضرورة إزالة العقبات التي تعترض الابتكارات الإنسانية، والتوسع في نطاق هذه الابتكارات لتشمل الجوانب الرئيسية التي تمتد من الإنذار المبكر بالأزمات، إلى معالجة تحدياتها الآنية الملحة، وأخيرًا لتعزيز التعافي والتكيف والاستدامة. وتأتي في مقدمة هذه التحديات مسألة صعوبة تأمين التمويل والموارد الكافية لتطوير أفكار ابتكارية دقيقة ومتعلقة بالحالات الاستثنائية.

والتحدي لا يكمن في ارتفاع تكلفة تطوير هذه الأفكار، وإنما في غياب أهمية هذا النوع من الابتكارات عن أجندات المجتمع العلمي والابتكاري، ففي العمق يأتي موضوع ملكية الابتكارات الإنسانية، والقطاعات التي ستقوم بتبني مخرجاتها، وإيصالها للمستفيدين. وبنفس القدر من الأهمية، تواجه الابتكارات الإنسانية مخاطر الفشل بدرجة أعلى بكثير من مثيلاتها من الابتكارات التكنولوجية أو الاجتماعية، وهذا يضع على المحك عملية تطوير الأفكار الريادية للحالات الإنسانية مثل وحدات تنقية المياه المحمولة، والمنتجات ذات المحتوى العالي من المغذيات المخصصة للأطفال، وغيرهم من الفئات المجتمعية الأكثر احتياجا، هذا بجانب متطلبات تأمين التعليم أثناء الأزمات، ومختلف ابتكارات تسهيل الوصول لمصادر الطاقة، وإتاحة العلاجات، والرعاية الصحية الأساسية.

وعلاوة على ذلك، فإن الابتكارات الإنسانية تواجه تحديات حرجة ومرتبطة بعامل الوقت، ففي حالات الأزمات لا مجال لإتاحة المساحة الزمنية المعتادة لتطوير وتنفيذ الأفكار الابتكارية، وإنما يتوجب الانتقال السلس من المشاريع التجريبية إلى التنفيذ على نطاق واسع بأسرع ما يمكن، وبأقل درجة من الأخطاء الفنية، أو متطلبات التكرار، وهذا يضع عبئا إضافيا على جهود تطوير وتطويع الحلول الابتكارية المتطورة والداعمة في عمليات الطوارئ. وقد أدت هذه التحديات مجتمعةً إلى اقتصار الابتكارات الإنسانية على فئات الابتكارات الاجتماعية التي لا تتطلب بحكم طبيعتها استثمار الكثير من الوقت في تطوير وبلورة الأفكار الموجهة للتحديات الأكثر إلحاحًا في السياقات الإنسانية.

غير أن الابتكارات الاجتماعية في حد ذاتها قد أصبحت أكثر اعتمادا على التقنيات الحديثة، ولم تعد معزولة كما كانت في السابق. ففي حالات الأزمات أصبح دمج التقنيات المتقدمة، وأدوات الذكاء الاصطناعي في العمل الإنساني ضرورة لا بد منها، وذلك من حيث تعزيز الجاهزية القائمة على البيانات الموثوقة للاستشراف الاستراتيجي والمحاكاة، ومن أجل تحفيز صناعة القرارات المدعمة بالأدلة العلمية، ورفع كفاءة الاستجابة الإنسانية للفئات المتضررة من الأزمات، وتوظيف جهود الجهات التطوعية، والمؤسسات الخيرية لتسريع العمل في مجال الابتكار الاجتماعي. ويتطلب ذلك التكامل التخصصي بين المجتمع العلمي، وجميع الفاعلين في منظومة الابتكار، والنسيج المجتمعي الأكبر. وفي الوقت ذاته، تكتسب عملية تحويل الإمكانات إلى نواتج مستدامة أهمية نوعية في دعم الابتكارات الإنسانية؛ فالقيمة الحقيقية لا تقتصر على قدرة المنظومة في إنتاج مخرجات قابلة للتسويق والاستخدام في الأزمات، وإنما في تجاوز الفجوات الثقافية الهائلة بين الابتكارات الإنسانية وغيرها من الأنواع الأخرى، والنجاح في ترسيخ الابتكارات الإنسانية كمسارات مستدامة بخلاف الانطباع السائد عنها وكأنها متطلبات مؤقتة، ولا تتطلب الاستثمار على المدى الطويل.

وفي هذا السياق، تبرز أهمية توطين الابتكارات الإنسانية، وذلك عبر التعلم والاستفادة من الأزمات الإقليمية والدولية، ويستوجب ذلك تحليل وقراءة مختلف الحالات، واستخلاص النقاط المحورية كمنطلقات للخروج بأولويات الابتكارات الإنسانية. فكل أزمة تحمل معها مزيجًا معقدًا من التحديات التي قد تتكرر أو قد تأخذ أشكالًا ونماذج أخرى، ولكنها في جميع الأحوال مفيدة في بناء الوعي المتكامل عن احتياجات الابتكار ليس في الحالات الطارئة وحسب، وإنما في تعزيز استدامة النظم الحيوية في جميع الحالات. كما أن التركيز على تطوير أفكار ابتكارية موجهة للعمل الإنساني من شأنه أن يرسخ التكامل بين الابتكارات التكنولوجية والاجتماعية بما يدعم منظومات الابتكار على مختلف المستويات؛ فتوطين الابتكارات الإنسانية يعزز محور نقل وتوطين التكنولوجيا بشكله الواسع، ويتيح الفرصة أمام الجيل الجديد من المبتكرين لاستكشاف نقاط التميز غير المألوفة، ويفتح آفاق الشراكات الاستراتيجية المثمرة التي بدورها تسهم في الانفتاح العلمي، والتبادل المعرفي.

كما أن نشر ثقافة الابتكارات الإنسانية بشقيها التكنولوجي والاجتماعي له أثره الإيجابي في إذكاء روح المسؤولية في المجتمع العلمي والابتكاري من أجل تطوير حلول قائمة على المعرفة للتخفيف من وطأة الآثار السلبية للأزمات، وهذا هو الدور الغائب في أي حراك دولي لحماية المتضررين من الأزمات. ولا بد من إبراز هذا الدور المركزي للعلوم والتكنولوجيا والابتكار في بلورة المعرفة إلى حلول موجهة للعمل الإنساني.