طاقة الأمواج في سلطنة عُمان.. فرص متجددة وسط تحديات استراتيجية
تستفيد مشاريع الطاقة الشمسية من ضوء الشمس المستمر، ما يضمن توفير طاقة مستدامة طوال العام، وتوفر طاقة الرياح إمكانيات كبيرة في المناطق الساحلية والجبال، وبالمثل، يمكن لطاقة الأمواج أن تتكامل مع المصادر الأخرى لتكوين منظومة متكاملة للطاقة النظيفة.
وتمثل طاقة الأمواج في سلطنة عُمان - التي تمتلك موارد بحرية غنية بشريط ساحلي يزيد عن 2000 كيلومتر - فرصة استراتيجية مهمة لتعزيز مزيج الطاقة المتجددة وتنويع مصادر الطاقة الوطنية بما يواكب «رؤية عمان 2040». ولكن يبقى السؤال: «هل يمكن أن توفر الأمواج موارد كافية لتحقيق جدوى اقتصادية؟»، وهل لهذا النوع من الطاقة أن يلعب دورًا تكامليًا مجديًا مع طاقة الشمس والرياح؟
هذا التساؤل ليس ترفًا فكريًا، بل يرتبط بإطار أوسع من السياسات الاقتصادية والمناخية، ويعكس في الوقت نفسه طموح سلطنة عمان في خلق فرص عمل جديدة وتأسيس صناعة بحرية متخصصة، غير أن الصورة معقدة، فطاقة الأمواج عالميًا ما زالت في طور النضج التجريبي، ويصاحبها تحديات تقنية وتنظيمية، إضافة إلى تكاليف مرتفعة.
وتشير الدراسات إلى أن متوسط التدفق في بحر عمان يصل إلى 15-20 كيلوواط لكل متر في بعض المناطق مثل ظفار والدقم، بينما ينخفض إلى حوالي 5-10 كيلوواط/م في السواحل الشمالية كمسقط وبركاء. مقارنة بمناطق المحيط الأطلسي أو بحر الشمال التي تتجاوز معدلات الطاقة فيها 30-40 kW/m. وتُعتبر موارد سلطنة عمان في هذا السياق «متوسطة»، كما يجب مراعاة القيمة الموسمية للأمواج التي تزداد قوتها صيفًا بفعل الرياح الموسمية من الهند، ما يجعلها موردًا تكميليًا لدعم استقرار الشبكة في شهور الذروة.
هذه المعطيات تقودنا لسؤال آخر مهم، مفاده: «هل من المجدي استثمار ملايين الدولارات في مشروع موجي في بلد متوسط المورد، أم الأجدى التركيز على الشمس والرياح فقط؟»، هذا سؤال جوهري يستحق إجابة دقيقة، لا سيما إذا اعتبرنا أن استراتيجية تنويع الطاقة لا تقوم فقط على الجدوى اللحظية، بل أيضًا على تنويع مصادر المخاطر وتحقيق مرونة النظام الكهربائي أمام تقلبات الطقس وأسعار الوقود.
هكذا تتحول الأمواج لكهرباء
تحويل حركة الأمواج إلى طاقة كهربائية ليس مفهومًا حديثًا، لكنه يعد تحديًا صعبًا حيث من الناحية التقنية، حيث يجب توفير بنية تحتية مجهزة لهذا النوع من الطاقة وحاليًا يمكن حصر أشهر التقنيات في أربع فئات رئيسية:
•أعمدة المياه المتذبذبة (OWC)
وهي أنظمة تعتمد غرفًا مجوفة مثبتة على الشاطئ أو على منشآت كاسرة للأمواج، يدخل إليها الماء فيضغط الهواء ويولد حركة توربينية. تتميز بقلة الأجزاء المتحركة، ما يعني صيانة أسهل.
•العوامات الاستيعابية (Point Absorbers)
وهي أجهزة عائمة تستجيب لحركة الأمواج العمودية وترتبط بأنظمة توليد كهربائي مدمجة بداخلها. مرونتها تجعلها ملائمة للمياه العميقة.
•الأجهزة الساحلية (Shoreline Converters)
تثبت بالقرب من الشاطئ، وتستخدم تدفق الأمواج لتحريك مكابس أو أكياس هوائية تدير التوربينات. وهي أرخص تركيبًا لكنها محدودة بالظروف الساحلية.
•الأنظمة الضاغطة المغمورة (Submerged Pressure Systems)
توضع بالكامل تحت الماء، مستفيدة من فروق الضغط الناتج عن مرور الموجة فوقها. أهم مزاياها قلة تعرضها للأعاصير والعوامل المناخية المباشرة.
وتحتاج مشاريع الطاقة البحرية إلى مراس قوية، وكابلات بحرية لنقل الكهرباء، بالإضافة إلى أنظمة مراقبة رقمية متصلة بالأقمار الصناعية لرصد الأداء. كما يوجد أيضًا محطات لتحويل الطاقة وربطها بالشبكة الوطنية أو بمحطات محددة مثل محطات تحلية المياه والموانئ.
هذا التعقيد يزيد من التكلفة الرأسمالية ويطرح أسئلة حول جدوى الاستثمار مقارنة ببناء محطة طاقة شمسية بسيطة، مما يدفعنا لتساؤل آخر: هل يوجد طلب موسمي كافٍ لتبرير هذا الربط المكلف؟
في هذا السياق، نجد أن استثمار سلطنة عمان في موانئ كبرى مثل ميناء الدقم قد يبرر استخدام طاقة الأمواج لتزويد هذه المنشآت بالطاقة النظيفة ضمن مزيج من مصادر متجددة ومولدات احتياطية. وبذلك، يمكن أن تصبح موانئ عمان نموذجًا يجمع الطاقة الشمسية والرياح والأمواج في وقت واحد، ما يشكل مستقبلًا ملهمًا للمنطقة.
استثمار طويل النفس
إن مشاريع الأمواج تحمل في ظاهرها وعودًا كبيرة، حيث لا انبعاثات تشغيلية، ولا حاجة لحرق وقود أحفوري، وانخفاض كبير في البصمة الكربونية مقارنة بمولدات الغاز أو الديزل التقليدية. فلكل ميغاواط ساعة يتم توليده من الأمواج، يمكن تجنّب ما يقارب 0.5 إلى 1 طن من ثاني أكسيد الكربون، وهو رصيد بيئي ثمين لسلطنة عُمان في مسار التزاماتها المناخية من المنظور الاقتصادي، تعتبر تكلفة إنتاج الكهرباء (LCOE) محورًا أساسيًا في أي نقاش جدي. تشير الدراسات إلى أن تكلفة طاقة الأمواج عالميًا تتراوح بين 20 و50 سنتًا أمريكيًا لكل كيلوواط ساعة، وهي تكلفة مرتفعة مقارنة بمحطات الطاقة الشمسية التي تتراوح بين 3 و9 سنتات، ومحطات طاقة الرياح بين 4 و6 سنتات. لكن السؤال الأهم هو: هل من العدل مقارنة التكلفة بشكل مباشر دون النظر إلى الفوائد غير المباشرة؟ فمشاريع طاقة الأمواج قد تسهم في خلق فرص عمل جديدة في الصناعات البحرية وصيانة المعدات تحت الماء، كما تعزز تدريب المهندسين المحليين وتنمي المعرفة الفنية الوطنية، فضلاً عن مساهمتها في استقرار الشبكة الكهربائية الساحلية وتقليل الاعتماد على الواردات النفطية. هذه العوائد تستحق أن تُؤخذ في الحسبان عند تقييم الجدوى الاقتصادية بشكل شامل.
وبالرغم من ارتفاع رأس المال الابتدائي، يمكن تخفيضه من خلال تقديم حزم تمويل هجينة تتضمن قروضًا حكومية منخفضة الفائدة، ومنحًا دولية مثل تلك المقدمة من صناديق المناخ الأخضر، وإصدار سندات خضراء خاصة بالطاقة البحرية، بالإضافة إلى مشاركة مطورين دوليين يمتلكون خبرات فنية وتمويلية. إذا تمت الاستفادة من هذه الآليات، فمن الممكن تحقيق تكلفة مستدامة تتراوح بين 15 و25 سنتًا لكل كيلوواط ساعة خلال 5 إلى 10 سنوات، وفقًا لتأكيدات بعض شركات التطوير البحري، بشرط التعلم من التجارب السابقة في أوروبا وآسيا وتجنب الأخطاء التصميمية الأولى.
علاوة على ذلك، يمكن أن تصبح الهياكل الغاطسة المستخدمة في مشاريع طاقة الأمواج موائل اصطناعية تجذب الأسماك والشعاب المرجانية، مما يعزز التنوع الأحيائي البحري. ومع ذلك، يجب دراسة المخاوف البيئية المحتملة بعناية، مثل تأثير ما يُعرف بـ«ظل الموجة» على ديناميكيات الرواسب الساحلية، واحتمالية زيادة التعرية في مناطق معينة، وتأثير الضوضاء تحت الماء على الثدييات البحرية والأسماك الحساسة للذبذبات الصوتية. لذا، من الضروري إجراء دراسات تقييم الأثر البيئي (EIA) قبل البدء في أي مشروع، تشمل نمذجة هيدروديناميكية لسلوك الأمواج والتيارات، ومسوحًا للثروة السمكية، وتحليلًا للتأثير على أنشطة الصيد التقليدي؛ لضمان قبول المجتمع المحلي للمشاريع وتجنب المعارضة الاجتماعية التي قد تعرقل الاستثمار.
وفي إطار التفكير بمستقبل مزيج الطاقة محليًا، يمكن لمشاريع الأمواج أن تلعب دورًا تكميليًا هامًا للطاقة الشمسية والرياح بدلًا من منافستها. تتميز الأمواج بدورة إنتاج موسمية مختلفة، ما يسهم في استقرار الإمدادات عندما يتراجع إنتاج الطاقة الشمسية خلال فترات الليل أو في الشتاء، أو عندما تنخفض سرعة الرياح في بعض الأوقات من السنة. بناءً على ذلك، تبرز فكرة الأنظمة الهجينة، التي تربط مشاريع الأمواج بمحطات الرياح والطاقة الشمسية ضمن شبكة ذكية واحدة. هذه الأنظمة لا تسهم فقط في توزيع الإنتاج الكهربائي على مدار الساعة، لكنها أيضًا تقلل من الحاجة إلى تخزين الكهرباء وتعزز مرونة الشبكة الوطنية. قد يكون من الممكن رؤية ميناء الدقم في المستقبل كمثال حي لمنطقة صفرية الانبعاثات، بفضل شبكة طاقة هجينة تجمع بين المصادر الطبيعية الثلاثة. مثل هذه الرؤية تحتاج إلى تخطيط محكم وتعاون وثيق بين الجهات التنظيمية والمطورين، لضمان ربط الشبكات وإدارة الأحمال بكفاءة، بالإضافة إلى توفير أنظمة تخزين داعمة مثل البطاريات أو حلول الهيدروجين الأخضر.
كوادر مؤهلة ومجتمع جاهز
تعتبر صناعة طاقة الأمواج من القطاعات التقنية المتقدمة التي تتطلب مهارات متخصصة في مجالات عدة مثل الهندسة البحرية، تصميم وصيانة الكابلات البحرية، وتقنيات تشغيل المنشآت تحت سطح البحر. لذلك، يعد التعليم التقني والمهني حجر الزاوية لتطوير هذا القطاع في عُمان، إذ يلعب دورًا محوريًا في بناء كوادر عمانية مدربة تمتلك الخبرات الفنية اللازمة لتشغيل وصيانة هذه المشاريع بكفاءة وفاعلية.
إن الاستثمار في تطوير البرامج التعليمية والتدريبية في الجامعات والمعاهد التقنية يشكل فرصة ذهبية لتأسيس جيل جديد من المهندسين والفنيين المختصين، قادرين على مواكبة أحدث التقنيات العالمية في مجال الطاقة البحرية. هذه البرامج يجب أن تركز على الجوانب العملية والتطبيقية، مع دمج التدريب الميداني والتعاون مع الشركات والمؤسسات الدولية الرائدة، بهدف ضمان نقل المعرفة وتنمية المهارات بما يتناسب مع متطلبات السوق المحلي والعالمي.
تأهيل الكوادر الوطنية بهذه الطريقة لا يقتصر أثره على الجانب التقني فقط، بل يمتد ليشمل المجتمع بأكمله. فعندما تتوفر فرص عمل متخصصة في هذا المجال، يُمكن للشباب العماني، خصوصًا في المناطق الساحلية، الالتحاق بوظائف مجزية ترتبط مباشرة ببيئتهم وموردهم البحري. هذا يُسهم في تقليل البطالة، ويحفز التنمية الاقتصادية المستدامة في تلك المناطق، كما يعزز شعور الانتماء والمسؤولية تجاه مشاريع الطاقة النظيفة.
علاوة على ذلك، نشر الوعي التقني والمجتمعي عبر حملات توعوية وورش عمل منسقة مع المؤسسات التعليمية والهيئات المحلية يُمكن أن يساعد في بناء ثقافة دعم إيجابية لمشاريع طاقة الأمواج، ويشجع المجتمعات الساحلية على المشاركة الفعالة في تطوير هذا القطاع الجديد.
في النهاية، يشكل التكامل بين التعليم التقني والمهني وبين التنمية المجتمعية ركيزة أساسية لنجاح طاقة الأمواج في عمان، حيث يؤدي إلى خلق بيئة مستدامة قادرة على استيعاب التحديات التقنية، وضمان استفادة المجتمع المحلي من فرص التطوير الاقتصادي والبيئي.
الحوافز، التكامل، والمخاطر
نجاح مشاريع طاقة الأمواج في عمان لا يتوقف فقط على توفر التكنولوجيا، بل يرتبط بوجود بيئة استثمارية جاذبة. من الطبيعي أن يتردد المستثمرون في خوض غمار مشاريع ناشئة كهذه دون ضمانات واضحة للعائدات وتقليل المخاطر. وهنا يبرز دور الحوافز المالية في تسريع عجلة التنفيذ. يمكن للسلطنة أن تضع حزمة مدروسة من التسهيلات مثل: تعرفة تغذية مجدية للطاقة البحرية، إعفاءات جمركية على المعدات المستوردة، إعفاءات ضريبية لمدة تتراوح بين 5 و10 سنوات، دعم حكومي للمراحل التجريبية، وإتاحة التمويل من صناديق المناخ الدولية. هذه الحوافز ستمنح المستثمرين الثقة وستحفز تنافسية صحية بين الشركات المحلية والدولية لتطوير مشاريع مستدامة.
لكن في المقابل، يجب أن يوازن صانعو القرار بين حجم هذه التسهيلات وقدرة الميزانية العامة على تحملها دون خلق أعباء مالية غير محسوبة. ومن الضروري وضع شروط ذكية تضمن بقاء الفوائد داخل الاقتصاد الوطني، مثل فرض نسب تصنيع محلي، وإلزام بتوظيف كوادر عمانية لضمان نقل المعرفة وبناء القدرات الوطنية.
إلى جانب ذلك، هناك فرصة واعدة في ربط مشاريع طاقة الأمواج بالقطاع السياحي. الفنادق والمنتجعات الساحلية تبحث باستمرار عن طرق لتعزيز صورتها البيئية وجذب السائح المهتم بالممارسات المستدامة. إقامة مشاريع أمواج صغيرة بالقرب من هذه المنشآت قد يتيح لها الترويج بأنها تستهلك طاقة زرقاء، ما يزيد من جاذبيتها التسويقية. بل يمكن استثمار هذه المشاريع في تقديم جولات تعليمية للسياح، للتعريف بكيفية تحويل طاقة البحر إلى كهرباء، مما يسهم في ترسيخ هوية سياحية بيئية لعُمان. يمثل الإطار التشريعي حجر الأساس لضمان الاستدامة، وجذب الاستثمارات، وتقليل المخاطر. وطاقة الأمواج، بطبيعتها البحرية المعقدة، تحتاج إلى معاملة مختلفة عن تلك التي تُطبق على مشاريع الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح. فبينما تُدار مشاريع الطاقة المتجددة في عُمان حاليًا وفق لوائح موحدة تشمل التراخيص، والربط الشبكي، وتقييمات الأثر البيئي، إلا أن غياب إطار مخصص للطاقة البحرية يشكل فجوة واضحة في المنظومة التنظيمية.
ورغم هذه الفرص، لا يمكن تجاهل المخاطر الطويلة الأمد المرتبطة بتغير المناخ. فالتغير في أنماط الرياح الموسمية وزيادة قوة الأعاصير قد يؤدي إلى تغير تدفق طاقة الأمواج من عام لآخر. لذا من الضروري بناء أطلس موجي وطني يعتمد على بيانات طويلة الأمد، وتحديث النماذج الهيدروديناميكية بشكل دوري، مع إجراء اختبارات ميدانية مستمرة لرصد التغيرات المناخية وأثرها على كفاءة وأمان الأجهزة. ومن المهم أيضًا أن تتضمن التصاميم الهندسية حلولًا ذكية، مثل إمكانية غمر العوامات أو نقلها مؤقتًا عند توقع العواصف، لتقليل مخاطر الأعاصير الشديدة. إن دمج معايير المرونة المناخية منذ المراحل الأولى للتصميم والتنفيذ سيكون عنصرًا أساسيًا لضمان استدامة هذه المشاريع مستقبلاً.
ختامًا، يستلزم تحقيق الفائدة القصوى من هذه التقنية الاستثمار في البنية التحتية الملائمة، وتوفير الحوافز المالية والتنظيمية المناسبة، بالإضافة إلى بناء القدرات الوطنية من خلال التعليم التقني والمهني المتخصص. كما يتطلب الأمر إدارة متأنية للمخاطر التقنية والبيئية لضمان استدامة المشاريع وفاعليتها على المدى الطويل. وبالتوازي مع ذلك، يُعتبر التعاون بين مختلف الجهات المعنية والقطاع الخاص والمجتمع المحلي ركيزة أساسية في دعم تنفيذ مشاريع طاقة الأمواج بنجاح، ما يفتح آفاقًا جديدة للنمو الاقتصادي والاجتماعي في المناطق الساحلية، ويعزز مكانة عُمان كمركز للطاقة النظيفة في المنطقة.
م. عبدالهادي خلفان الساعدي مؤسس شركة حلول الهيدروجين الأخضر
