الأزمات التي لا تخيف سوق المال
تمثل الأزمات السياسية والاقتصادية فرصا عديدة للمستثمرين في أسواق المال والبورصات المحلية والعالمية، وينظر الكثير من المستثمرين إلى هذه الأزمات على أنها أفضل وقت لبناء الثروات؛ غير أن الاستفادة من هذه الفرص تحتاج إلى ما يمكن تسميته بالاستثمار الذكي أو الاستثمار للمستقبل بحيث يتم اختيار الأسهم القابلة للنمو في المستقبل للاستثمار فيها نظرا لأهميتها الاستراتيجية وقدرتها على النمو بعد انحسار الأزمات.
تعتبر الأزمات جزءا من الدورة الاقتصادية سواء تعلق الأمر بالأسواق المحلية أو الأسواق الإقليمية والعالمية، إذ لا يمكن للنمو أن يستمر إلى ما لا نهاية كما لا يمكننا أن نتصور عالما خاليا من المشاكل والأزمات والتحديات، وحتى في الاقتصادات المزدهرة تتأثر بعض القطاعات من حين لآخر، بل إن الأسواق تحتاج من حين لآخر إلى «أزمة» تعيد ترتيب الخيارات أمام المستثمرين وتتيح أمامهم فرصا جديدة، وعلى المستثمرين أن يجيدوا طرق التعامل مع الأزمات للاستفادة من الفرص التي تتيحها، ولكن المهم هو: أي قطاع نختار للاستثمار فيه؟ وأي شركة يمكنها تحقيق النمو في المستقبل؟
خلال العام الجاري شهدنا عددا من الأزمات التي كانت لها تأثيرات شديدة على أسواق المال؛ لعل أبرزها قرار الولايات المتحدة رفع الرسوم الجمركية على مختلف دول العالم غير أن الأسواق استوعبت هذه الأزمة خلال أسابيع من حدوثها، كما أن الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران أثرت على أسواق المال وخاصة الشركات التي لها ارتباط بقطاعات الطيران والسياحة والنقل والتأمين والنفط، وبما أن الاقتصادات الخليجية مرتبطة بشكل كبير بقطاع النفط فإن أي تقلب في أسعار النفط يؤثر بشكل مباشر على أسواق المال الخليجية، هذا بالإضافة إلى أن الحروب تسهم في ارتفاع المخاطر المرتبطة بالشحن البحري وهو ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف التأمين والنقل وبالتالي فإن الأسهم المرتبطة بهذه القطاعات كثيرا ما تكون هي الأكثر عرضة للتقلب. أضف إلى هذا أننا قد نشهد في فترات الأزمات انتقال المستثمرين الأجانب من سوق إلى آخر بحثا عن فرص استثمارية، وعلى الرغم من أن هذا الانتقال قد يؤثر سلبا على البورصة التي يغادرها المستثمرون إلا أنه يتيح من جهة أخرى فرصا للنمو في البورصة الجديدة التي انتقل إليها المستثمرون.
وفي عالم تتنافس فيه البورصات المحلية والإقليمية والعالمية على اجتذاب المستثمرين فإن فرص نمو المكاسب أكثر ما تكون في الأسواق الأكثر تنظيما والأكثر تنوعا في الخيارات المتاحة للمستثمرين، وهذه الأسواق بالتالي تستطيع امتصاص الأزمات واستيعابها خلال فترة وجيزة، وربما نجد أن مؤشر إحدى البورصات يتراجع في شهر واحد بنسبة 10 بالمائة أو أكثر إلا أنه يعود للارتفاع خلال فترة وجيزة نظرا لاطمئنان المستثمرين إلى مستوى الحوكمة في البورصة من جهة والثقة في أداء الشركات من جهة ثانية وتدفق السيولة على البورصة من جهة ثالثة، وبدون هذا لا يمكن للأسواق أن تستوعب تأثير الأزمات بالسرعة الكافية.
وهذا يعني أن فرص النمو التي تتيحها أسواق المال أثناء الأزمات تحتاج إلى عدد من عوامل النجاح؛ بعضها يرتبط بالأسواق المالية ومستوى التنظيم فيها، والبعض الآخر يرتبط بإمكانيات الشركات وجهازها التنفيذي وقدرات مجالس إداراتها على تعزيز أداء الشركات ماليا وإداريا، والقسم الثالث يرتبط بمهارات المستثمرين ومدى استيعابهم لتأثير الأزمات السياسية والاقتصادية على الشركات وقدراتهم على تحويل الأزمة إلى مكسب اقتصادي ولحظة تحول في المحفظة الاستثمارية. من يستطيع تحليل الوضع والتأثيرات المتوقعة والخيارات المتاحة هو الذي يستطيع تحقيق المكاسب من هذه الأزمات؛ حينا بالاحتفاظ بالأسهم، وحينا بالاتجاه إلى الشراء، وحينا آخر بالتخارج وادخار السيولة في انتظار فرصة جديدة.
عند الحديث عن إمكانيات الشركات وقراءتها للمستقبل نجد أمامنا عشرات بل مئات الأمثلة في قطاعات اقتصادية مختلفة لشركات لم تتمكن من قراءة المستقبل كما ينبغي، وعلى سبيل المثال فإن التاريخ يؤكد أن شركات الاتصالات التي واكبت نمو قطاع التكنولوجيا الحديثة واستفادت منه استطاعت تحقيق النمو في عالم يشهد تنافسا شديدا، في حين أن الشركات التي لم تتمكن من ذلك كانت نهايتها الخروج من السوق أو على الأقل تقليص إنتاجها وانحسار وجودها العالمي. هذا مثال على كفاءة الشركات وقدرتها على مواكبة المتغيرات والتطورات التكنولوجية وهو لا يقتصر فقط على شركات الاتصالات وإنما يشمل جميع الشركات؛ فهي تستفيد من الدورة الاقتصادية، وكلما تمكنت من مواكبة المتغيرات في القطاعات الاقتصادية ومواكبة تطلعات المجتمع استطاعت تحقيق النمو وزيادة الإيرادات ومضاعفة الأرباح.
أما فيما يتعلق بالمستثمرين الذين يرغبون في تحويل الأزمات إلى فرص استثمارية فإن عليهم أن يتميزوا بالقدرة على التحليل؛ تحليل واقع السهم، وواقع الشركة، وواقع القطاع الذي تعمل فيه الشركة، ومدى انعكاس الأزمة عليه، وهكذا يستطيع المستثمر اتخاذ القرار الصحيح: الشراء، أو البيع، أو الاحتفاظ بالسهم. إذ إن تقييم المخاطر أمر ضروري لزيادة المكاسب في أسواق المال.
ولعل أبرز تساؤلات المستثمرين في هذا الإطار هي: أي سهم نختار للاستثمار فيه؟ هل نختار الأسهم المرتبطة بالأزمة؟ أو الأسهم الأخرى؟ وكيف يمكننا تحويل الأزمة إلى مصدر للربح؟ وللإجابة على مثل هذه التساؤلات علينا أن نراقب الأسواق واتجاهاتها واتجاهات الأسهم المدرجة في البورصة، بالإضافة إلى ما أشرنا إليه سابقا بشأن قوة الشركات ومواكبتها للمتغيرات المحلية والعالمية، وهذا يعني أن علينا دراسة مستويات أرباح الشركات خلال السنوات الثلاث السابقة على الأقل، ومعرفة إن كانت من الشركات التي تعمل على تقوية رأسمالها وتحرص على تنويع أنشطتها واستثماراتها، وهل هي من الشركات التي تتمتع بسجل جيد في مجال توزيع الأرباح وتعظيم قيمة استثمارات المساهمين فيها أو لا. الإجابة على هذه التساؤلات مهمة جدا للمستثمرين الراغبين في الاستفادة من الفرص التي تتيحها الأزمات التي تشهدها أسواق المال. أما قيام البعض بشراء أسهم لا تتمتع بأي ميزة استثمارية وإنما فقط لأن سهمها دون القيمة الاسمية فهذا نوع من المخاطرة التي تضاعف خسائر المستثمرين في البورصة.
وبالإضافة إلى هذا كله، وإلى إمكانيات البورصة من حيث التنظيم وتوفر السيولة وتنوع خيارات الاستثمار، ومستوى أداء الشركات من حيث الإيرادات والأرباح والتوزيعات التي تدفعها للمساهمين؛ على المستثمرين أن يراقبوا الأسهم التي تتراجع أثناء الأزمات، ومن خلال متابعتنا لبورصة مسقط نجد أن تأثيرات الأزمات في كثير من الأحيان لا تقتصر على أسهم معينة وإنما تشمل معظم الأسهم بما في ذلك الأسهم القيادية التي تسجل -في كثير من الأحيان- تراجعات غير مبررة، غير أنه بعد انحسار الأزمة تعود الأسهم إلى الصعود بعد أن أتاحت فرصا عديدة للمستثمرين والشركات والصناديق الاستثمارية لزيادة مكاسبها من البورصة، ومن المهم الإشارة إلى أننا لاحظنا خلال الأشهر الماضية اتجاها جيدا من قبل الصناديق الاستثمارية لزيادة مشترياتها خلال الأزمات التي شهدتها بورصة مسقط وهو ما أسهم في تقليص خسائر البورصة وشجع المستثمرين الأفراد على الشراء وعزز ثقتهم بالأسهم وهو أمر إيجابي نتطلع إلى أن يستمر، فالأزمات -كما أشرنا سابقا- تعيد ترتيب أوراق المستثمرين وتتيح فرصا عديدة لنمو المحافظ الاستثمارية وتحافظ في نفس الوقت على أداء البورصة وقدراتها على استقطاب الاستثمارات والمساهمة بالتالي في النمو الاقتصادي وزيادة مكاسب المستثمرين.
محمد بن أحمد الشيزاوي كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية
