الحنين إلى الماضي يدمّرُ اقتصادات الدول
الحنين إلى الماضي أو (النوستالجيا) هو شعور مؤلم وقاتل. هذا المصطلح الذي ظهر لأول مرة في أواخر القرن السابع عشر، لم يكن يومًا مجرد حالة شعورية رقيقة كما يُفهم اليوم، بل كان يُعرّف أنه مرض يصيب الإنسان نتيجة التغير والرحيل من المكان، وتظهر أعراضه على شكل حمى، وفقدان شهية، وخفقان في القلب. وكان يُعتقد أنّ من لا يتلقى علاجا يشفيه قد يموت.
اليوم لم يعد يُنظر إلى الحنين إلى الماضي كمرض، بل أصبح يُرى كإحساس دافئ، بل ووديع، تجاه ماضٍ مثالي يصعب تكراره. لكن الاضطرابات الاقتصادية العميقة التي شهدها العالم خلال الأشهر الأخيرة قد تدفع المحللين إلى إعادة النظر في هذا المفهوم، وعدّه حالة خطيرة، بل وربما مهددة للحياة. فالسياسات الأمريكية التي بُنيت على وهم استعادة «عظمة الماضي» المتمثلة في شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا» أسهمت في تعميق معاناة الناس داخل الولايات المتحدة وخارجها.
وكان أبرز تجليات ذلك ما حدث في 2 أبريل 2025 حين أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن سلسلة ضخمة من الرسوم الجمركية وُصفت بأنها متبادلة بزعم استعادة أمجاد الصناعة الأمريكية. لكن النتيجة كانت انهيارًا في الأسواق المالية. قال ترامب لمؤيديه بفخر: «نحن نُعيد إحياء صناعة تخلت عنها بلدنا» بينما كانت السندات والأسهم تهوي. وأضاف: «سنُعيد عمال المناجم إلى العمل. حتى لو منحتهم شقة فاخرة في أحد أرقى أحياء نيويورك ووظيفة مختلفة، لكنهم سيظلون تعساء. هم يحبون العمل في مناجم الفحم، هذا هو شغفهم».
أثار هذا الإعلان صدمة اقتصادية وفكرية على حد سواء. ومع ذلك لم يكن ترامب أول زعيم يحاول عزل بلاده عن العالم أملاً في استعادة زمن ولى. فمنذ القرن الخامس عشر حتى التاسع عشر أغلقت الصين إمبراطوريتها؛ خشية التأثيرات الخارجية. واليابان فعلت الشيء نفسه خلال عصور الشوغونية (نظام الحكم العسكري الإقطاعي في اليابان) في القرون السابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر. أما في أوروبا فقد تبنت دول عدة سياسات مماثلة بدافع من الحنين إلى الماضي. وعلى الرغم من تباين السياقات الاقتصادية والسياسية كانت هذه السياسات تستند إلى فكرة واحدة، وهي أن الانغلاق من أجل حماية التقاليد قد يُعيد التوازن الاقتصادي والروحي.
لكن النتيجة كانت دائمًا كارثية؛ فالتاريخ يثبت أن توظيف الحنين إلى الماضي كسلاح سياسي واقتصادي يفضي إلى الانهيار. الدول التي تبنّت مثل هذه السياسات إما تراجعت عنها مجبرة، وإما سقطت في هاوية الخراب. فالصين -بسبب انغلاقها ضعفت حتى أصبحت في القرن التاسع عشر خاضعة لإملاءات القوى الإمبريالية الغربية. واليابان بانعزالها أصبحت أكثر عرضة للتدخلات الغربية المتصاعدة. أما أوروبا فقد أسهم حنينها إلى ماضٍ زراعي بعد الحرب العالمية الأولى في تمهيد الطريق لصعود الفاشية (نظام حكم ديكتاتوري قومـي متطرف يرفض الديمقراطية ويُمجّد القوة والعنف).
ولهذا سيكون من الحكمة أن تتجنب واشنطن هذا المسار؛ فالحنين إلى الماضي إن تُرك بلا ضوابط قد يتحول من شعور دافئ إلى مرض عضال يقوّض أسس الاقتصاد.
أوقفوا الزمن!
في عام 1688، كتب طبيب شاب من سويسرا يُدعى يوهانس هوفر أطروحة عن «حالة ذهنية» اجتاحت بلاده، وصفها بأنها «حزن على فقدان سحر الوطن». كان السويسريون يستخدمون بالفعل في حياتهم اليومية تعبيرا شائعا للدلالة على هذا الشعور، هو (Heimweh) ويعني «الحنين إلى الوطن». لكن هوفر منح هذه الحالة اسما طبيا لأول مرة، فجمع بين الكلمة اليونانية القديمة التي تعني «العودة إلى الوطن» وتلك التي تعني «الألم»، ليولد مصطلح الحنين إلى الماضي (nostalgia).
رافق هذا المصطلح الجديد وصفٌ سريري لحالة الحنين، ونشأتها وتطورها. وغالبا ما كانت تصيب الشباب الذين غادروا قراهم للعمل في مدن أكبر داخل سويسرا أو في الخارج كمرتزقة. ولذلك، عُدّتْ حالة ناتجة عن الانفصال وعدم القدرة على التكيّف. ووفقا لهوفر، فقد كان سبب هذه الحالة، كما اعتقد الأطباء آنذاك، هو الاضطراب المستمر فيما يُعرف بـ«الأرواح الحيوانية» (مفهوم طبي قديم يُشير إلى قوى خفية تتحكم في المشاعر والعقل داخل الجسم)، ولم يكن لها علاج، كما كتب، سوى العودة إلى الوطن.
سرعان ما تحوّل هذا التشخيص الجديد إلى حالة وطنية، وأطلق عليه اسم (Schweizer Heimweh)، أو «الحنين السويسري للوطن». وخلال القرنين التاليين لأطروحة هوفر، بدأ المحللون في تشخيص حالات مماثلة من «الحنين السويسري» في مجتمعات أخرى في أنحاء أوروبا والأمريكتين، وكان السبب الأبرز وراءها هو موجات العولمة والهجرة (غالبا القسرية) والتصنيع المتسارع.
لكن في الجهة الأخرى من القارة الأوراسية، كانت مظاهر الحنين إلى الماضي تشتعل في السياسة قبل أن يخطر المفهوم ببال هوفر بقرون. وقد بدأت تلك النزعة من الصين. ففي عام 1433، عاد الأدميرال الصيني تشنج خه إلى وطنه بعد رحلاته البحرية الاستثنائية بأسطوله العظيم المعروف «بـأسطول الكنوز». كانت سفنه الضخمة قد وصلت إلى سواحل إفريقيا الشرقية؛ حيث قدّمت هدايا راقية ومتقنة مقابل حيوانات برية نادرة، كالفهود والزرافات والأسود والمها، بالإضافة إلى التوابل وبعض الأقمشة القطنية.
لكن الإمبراطور آنذاك توصّل إلى أن هذا التوسع البحري لم يكن سوى نوع من الترف والانبهار بالعجائب الغريبة، دون مكاسب حقيقية. وبدلا من الاستمرار، قرّر أن أي محاولة لفرض التبعية على شعوب أخرى ستكون مكلفة، وقد تُقحم الصين في صراعات لا حصر لها، إذ سيسعى الزعماء المحليون إلى استدعاء القوة الصينية الهائلة في صراعاتهم الداخلية. مثل هذا الانخراط سيُهدد القيم الجوهرية للصين ويشوّش على رسالتها التاريخية.
بعبارة أخرى، رأت الإمبراطورية أن العولمة لا تعني سوى أن الدول الأخرى ستسعى إلى استغلال ازدهار الصين. وعليه، اختار البلاط الإمبراطوري الانعزال. فتوقفت الدولة عن تمويل الرحلات البحرية، وامتنعت إلى حد كبير عن شراء السلع الأجنبية. وسمحت فقط من حين إلى آخر لبعض الزوار من الخارج بدخول الصين، غالبا مع هدايا رمزية لإبداء الإعجاب. فعلى سبيل المثال، نجح المبشرون اليسوعيون البرتغاليون في كسب ودّ البلاط من خلال تقديم ساعات فخمة. لكن الصين، التي كانت ترى نفسها آنذاك الأغنى والأقوى في العالم، اعتقدت أن بإمكانها أن تدير ظهرها للعالم دون أن تخسر شيئا.
قد نشأت هذه القناعة من شعور بالتفوق الثقافي، ومن منطق تاريخي استند إلى فلسفات مختلفة، من الطاوية (فلسفة صينية تدعو للانسجام مع الطبيعة)، والخُماسية أو ووشينج (نظرية العناصر الخمسة في الكون)، والبوذية (ديانة وفلسفة تدعو للتأمل ونبذ التعلّق)، والكونفوشيوسية (تعاليم أخلاقية صينية تركز على الانضباط والأسرة)، وحتى الكونفوشيوسية العقلانية الجديدة. ورغم اختلاف هذه المدارس وتناقضها أحيانا، إلا أنها اشتركت في فكرة أن التاريخ يستوجب بين الحين والآخر الرجوع إلى الأصل أو استعادة التوازن القديم.
ظلّ الموقف الصيني من العالم الخارجي ثابتا، حتى بعد أن بدأت مكانتها الاقتصادية في التراجع. فقد ركّزت أسرة تشينج المانشوية (آخر أسرة إمبراطورية حكمت الصين من أصول غير صينية) جهودها التوسعية باتجاه آسيا الوسطى المجاورة، لا نحو البحار أو التجارة الخارجية. وبهذا، بقيت البلاد معزولة في الوقت الذي كانت فيه الثورة الصناعية تُغيّر وجه الاقتصاد في أوروبا والولايات المتحدة، حتى تجاوزت هذه الدول إمبراطورية الصين من حيث الناتج المحلي الإجمالي والقوة العسكرية.
ورغم ذلك، كان البلاط الإمبراطوري الصيني على علم بالتقدم الحاصل في الغرب؛ ففي عام 1793، وصل إلى الصين مبعوث بريطاني يُدعى جورج ماكارتني، وجلب معه نموذجا لقبة سماوية وآلة بخارية. لكن الصينيين لم يروا في هذه الهدايا سوى فضول علمي لا أكثر، ولم يدركوا ما تمثّله الطاقة الكربونية من تحوّل تاريخي. تُركت الآلة البخارية في صندوقها دون أن تُفتح. وردّ الإمبراطور تشيان لونج على ماكارتني بجملته الشهيرة: «إمبراطوريتنا السماوية تملك كل شيء بوفرة، ولا تحتاج إلى استيراد أي شيء من البرابرة مقابل منتجاتنا».
ولم تكن الصين وحدها في محاولتها تجميد الزمن. فاليابان، رغم بقائها منفتحة نسبيا لفترة أطول، وقعت بدورها في فخ الحنين إلى الماضي. ففي عام 1603، أصيبت اليابان بنوعها الخاص من القلق تجاه العولمة، فأصدر الشوغون (القائد العسكري الأعلى الذي كان يحكم اليابان فعليا) قوانين ساكوكو (سياسة العزلة التي أغلقت اليابان عن العالم)، أو «البلد المُقيَّد»، والتي منعت اليابانيين من السفر إلى الخارج، ومنعت العائدين منهم من الدخول مجددا. كما قطعت الحكومة أغلب علاقاتها الدبلوماسية مع العالم. وظلت التجارة محدودة مع الصين عبر ميناء ناغاساكي، وسمحت بدخول بعض الكتب الأجنبية، لا سيما من هولندا البروتستانتية. ولكن بشكل عام، أغلقت البلاد أبوابها.
أدرك بعض المسؤولين اليابانيين حينها أن سياسة «ساكوكو» قد تحرم اليابان من الابتكارات. لكنهم رأوا أن ذلك ثمن مقبول، نظرا لما اعتبروه تأثيرا مفسدا للعالم الخارجي. ودُفعت البلاد نحو الانعزال أيضا بسبب رغبة الحكومة المركزية في كبح جماح الدايميو (أمراء الإقطاع)، الذين جنوا ثرواتهم من التجارة على حساب سلطة الدولة. كما أرادت الدولة وقف نزيف الفضة الذي أدى إلى انخفاض الأسعار وارتفاع تكاليف الضرائب والجزية.
لكن الدافع الأهم كان ثقافيا وهو الدفاع عن قيم المجتمع التقليدي في وجه التغير. وكانت المخاوف اليابانية من المبشرين المسيحيين كبيرة، إذ اعتقدت الطبقة الحاكمة أنهم يُشجّعون المجتمعات المستقلة التي قد تُضعف قبضة الشوغونية المركزية.
اعتقد كلٌّ من الصين واليابان أن العزلة ستحمي حضارتيهما، لكن سياسات الحنين إلى الماضي أضعفتهما بدلًا من أن تحصنهما. ومع مرور الوقت أصبحت اقتصادات البلدين أضعف، وأصبحت أنظمتهما السياسية أكثر هشاشة. فاتهما الركب، بينما كانت الثورة الصناعية تدفع بالعالم إلى مستويات غير مسبوقة من الابتكار والإنتاجية. وتجلّت النتيجة المؤلمة في الحرب الأفيونية الأولى (1839–1842) -صراع مسلح بين الصين وبريطانيا؛ بسبب تجارة الأفيون التي فرضتها بريطانيا بالقوة-، حين هزمت بريطانيا الصين بسهولة؛ بفضل تفوّقها العسكري، ما أصاب القيادة الصينية بصدمة كبرى. واضطرت الصين إلى التنازل عن هونغ كونغ لبريطانيا، وفتح أسواقها بشروط مجحفة لصالح الإنجليز.
وخلال ما عُرف لاحقًا «بقرن الإذلال» استغلّت قوى أوروبية أخرى ضعف الصين؛ لنهب ثرواتها، وفرض شروطها عليها. ودفعت هذه الإهانات التاريخية إلى ظهور حركات فكرية جديدة في الصين كان أبرزها الشيوعية التي وصلت إلى السلطة في أربعينيات القرن العشرين.
أما اليابان فقد دافعت عن نفسها بشكل أكثر فاعلية. لكن ذلك تغيّر عام 1853، عندما أجبر الأسطول الحربي الأمريكي بقيادة الكومودور ماثيو بيري البلاد على الانفتاح بالقوة. حينها قررت اليابان اتخاذ خطوات جذرية؛ لتحديث اقتصادها، فألغت النظام الإقطاعي في حقبة استعادة ميجي -فترة إصلاح شامل أعادت السلطة للإمبراطور، وبدأت فيها نهضة اليابان الحديثة، وسرعان ما تبنّت إيديولوجيا جديدة تدعو إلى التوسع الإمبريالي -سياسة تهدف إلى السيطرة على أراضٍ وشعوب خارج حدود الدولة-.
العيش في الماضي
وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ الأوروبيون يدركون مدى خطورة الحنين إلى الماضي، والدور الكبير الذي تسبب به في صعود الفاشية، وتدمير الديمقراطية. ولهذا اتجهوا إلى مسار بديل، وهو تشجيع سكان الريف على الانتقال إلى المدن، مع تقديم دعم مالي سخي لأولئك الذين بقوا في الأرياف. ويمكن القول: إن هذه السياسة كانت نوعًا من الحنين المهذّب، على غرار ما عبّر عنه إدوار إيريو سابقًا، لكنها كانت في جوهرها محاولة لاحتواء أولئك الذين تضرروا من العولمة، مع الاستمرار في دفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام.
في الثمانينيات شكّل ما يُعرف «بـالسياسة الزراعية المشتركة» أكثر من 70% من ميزانية المجموعة الأوروبية. أما اليوم فلا تتجاوز حصتها 25% من ميزانية الاتحاد الأوروبي. ورغم ذلك فقد تمكنت اقتصادات القارة من التعافي بسرعة من آثار الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، في وقت قبل فيه الأوروبيون أن نمط الحياة الفلاحية بات جزءًا من الماضي، لا شيئًا يمكن بعثه من جديد بكامل طاقته.
لكن الحنين إلى الماضي لم يختفِ تمامًا. واليوم يعود بقوة إلى صدارة المشهد السياسي. إنه -على سبيل المثال- يغذّي موجة الشعبوية الأوروبية من جديد. غير أن الموضوع هذه المرة لم يعد محصورًا في الحياة الريفية، بل بات يدور حول فقدان الصناعات. كانت البداية من إيطاليا التي تأثرت بشدة بصدمة الصعود الصناعي الصيني، لا سيما في قطاعات الأجهزة المنزلية، والمنسوجات، والملابس. هذا الغضب الشعبي أتاح وصول أول حكومة شعبوية في أوروبا الغربية بعد الحرب عندما أصبح سيلفيو برلسكوني رئيسًا للوزراء عام 1994.
ومنذ ذلك الحين أخذت عدوى الحنين تتسع رقعتها. حتى ألمانيا -المحرك الصناعي لأوروبا- بدأت تتمايل تحت وطأة هذه الموجة، مع تصاعد شعبية حزب «البديل من أجل ألمانيا» خاصة في شرق البلاد؛ حيث يشعر السكان أنهم تُركوا خلف الركب.
ومع ذلك لا يبدو أن هناك دولة أصيبت بالحنين إلى الماضي مثلما أصيبت به الولايات المتحدة. فقد كان الغضب من العولمة، ومن تنامي التنوّع العرقي والثقافي، أحد المحرّكات الرئيسية التي دفعت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ومنذ فوزه بولاية ثانية عمل ترامب على تنفيذ وعوده التي تعكس نزعة رجعية صريحة. ففي الثاني من أبريل وصف فرضه رسومًا جمركية شاملة بأنه «يوم ولدت فيه الصناعة الأمريكية من جديد»، و«اليوم الذي استعادت فيه أمريكا قدرها».
أما وزير التجارة الأمريكي هوارد لَتنِك فقد صوّر هذه الرسوم أنه نوع من استعادة واشنطن لمجدها الضائع. وقال: إن الصين كانت قد صنعت «جيشًا من ملايين البشر يركّبون مسامير صغيرة لصناعة هواتف الآيفون»، وهي وظائف كانت لتكون يومًا ما من نصيب الأمريكيين. واليوم -بحسب تعبيره- فإن «هذا النوع من العمل» سيعود إلى الداخل الأمريكي.
وبعد تراجع الأسواق استبدل ترامب معظم الرسوم الجمركية التي فرضها بضريبة موحدة نسبتها 10%. لكن بغض النظر عن ارتفاع النسبة فإن هذه الرسوم غير قادرة على إعادة الوظائف المفقودة، خاصة في ظل اقتراب موجة جديدة من الأتمتة (استخدام الآلات والتقنيات بدلاً من البشر لتنفيذ الأعمال بشكل تلقائي). فكما أطاحت الروبوتات بالعاملين في المصانع خلال موجة التصنيع الأولى في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ فإن الذكاء الاصطناعي اليوم يهدد موظفي المكاتب بالطريقة نفسها.
ومع ذلك؛ فإن الحنين السياسي إلى الماضي يدفع كثيرين إلى تجاهل العواقب السلبية لهذه السياسات الاقتصادية الانتقامية. ومع تغيّر العالم من حولهم؛ يجد العديد من الناخبين الأمريكيين في صورة الرجل الذي يعمل في منجم الفحم، بينما تُعد زوجته وجبة الغداء في المنزل- شعورًا عميقًا بالراحة والأمان؛ ولهذا فإنهم على استعداد لتقديم تضحيات جذرية في سبيل استعادة تلك الصورة، ولهذا أيضًا يمكن لوزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسينت أن يصف الألم الناتج عن الرسوم الجمركية بأنه «فترة تطهير»، ويمكن لترامب أن يقدّم هذه الرسوم على أنها «عملية جراحية» و«علاج».
لكن هذا العلاج في جوهره أقرب إلى الدجل الاقتصادي؛ فاقتصاديات الحنين إلى الماضي لم تنجح قط، وفشلها المحتوم لا يؤدي إلا إلى ولادة حنين ثقافي أعمق، قد يكون أكثر خطورة من العزلة نفسها. فحين بدأت اليابان في التأخر عن أوروبا الغربية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تمسّكت بشدة بهويتها الثقافية الفريدة، ما دفعها في نهاية المطاف إلى طريق التوسع الإمبريالي.
وعندما تفشل الولايات المتحدة في استعادة الوظائف، بل وتخسر المزيد؛ بسبب الاضطرابات التي تسببها هذه السياسات الحمائية. فقد تتجه واشنطن أيضًا إلى المزيد من تأكيد تفوقها الأمريكي، بدلًا من الاعتراف بالحاجة إلى التراجع، أو إعادة التقييم. وربما تلجأ الحكومة إلى تصعيد «حروب ثقافية» داخلية، بدلًا من مراجعة المسار الاقتصادي؛ إذ لا بد من إلقاء اللوم على أحد حين تفشل السياسات التي يؤيدها الملايين. عندها يصبح الحنين إلى الماضي سببًا للأزمة، وفي الوقت نفسه غطاءً لها.
ولا غرابة في أن يشعر الناس بالقلق تجاه التكنولوجيا الجذرية التي تُغيّر عالم اليوم. فقوى العولمة والتكنولوجيا المزدوجة تعصف بالوظائف، وتفكك المجتمعات والعائلات، وتُعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية. ومن ثم تبدو فكرة العودة إلى نسخة مثالية ومنقّحة من العالم مغرية بشدة.
لكن التاريخ يوضح أن صُنّاع القرار لا يمكنهم التعامل مع الحنين إلى الماضي كما لو كان مجرد شعور بريء؛ فعندما يتحوّل هذا الشعور الذي قد يكون مريحًا على المستوى الفردي إلى سياسة عامة يُعطّل الحوار العام، ويفكك تماسك المجتمع. وفي تلك الحالة يصبح التعافي عملية طويلة ومؤلمة. والأسوأ أن العودة إلى وطن مثالي لا يوجد إلا في الخيال أمر غير ممكن من الأساس.
هارولد جيمس وماري-لويز جيمس
عن مجلة فورين أفيرز
