الاقتصادية

البودكاست في سلطنة عمان .. هل يتحول إلى صناعة اقتصادية واعدة ؟

13 يوليو 2025
أكثر من 4.5 مليون بودكاست حول العالم
13 يوليو 2025

أصبح البودكاست أحد أبرز أشكال الإعلام الجديد في سلطنة عمان، إذ ظهرت عدد من المنصات والمبادرات الفردية والجماعية التي تستثمر في تقديم محتوى صوتي يلامس اهتمامات الجمهور العماني والعربي، ويغطي مواضيع متنوعة في الاقتصاد، وريادة الأعمال، والثقافة، والرياضة، وحتى القصص الإنسانية.

وتُظهر الأرقام العالمية نموًا متسارعًا لهذا القطاع؛ إذ بلغ عدد برامج البودكاست حول العالم أكثر من 4.5 مليون، فيما يُتوقع أن يتجاوز عدد المستمعين 584 مليونًا بنهاية عام 2025، وتشير بيانات منصة Backlinko إلى أن نحو 41% من المستمعين يقضون ساعة على الأقل أسبوعيًا في الاستماع للبودكاست، ما يعكس عمق التفاعل مع هذا النوع من المحتوى.

ووسط الانتشار الواسع والمتزايد لهذه المنصات، يبرز تساؤل اقتصادي: هل سيتحول البودكاست في سلطنة عمان إلى ثروة اقتصادية ومصدر دخل؟ أم أنه ما زال في إطار المبادرات الفردية والتجربة الشخصية؟

أجرت "عُمان" استطلاعًا صحفيًا مع عدد من صناع البودكاست في سلطنة عمان، للوقوف على واقع هذا القطاع، واستكشاف مصادر الدخل المتاحة، والتحديات التي تعترض طريق صناعته، والتطلعات المستقبلية لتحويله إلى رافد اقتصادي واعد.

وقال سعادة عبدالله بن الوليد بن زاهر الهنائي عضو مجلس الشورى ممثل ولاية بهلا ومؤسس منصة "كاسيت" للبودكاست، والذي وصلت عدد المشاهدات فيها إلى مليون مشاهدة: إن فكرة إنشاء منصة للبودكاست جاءت بدافع شخصي لتوثيق القصص العُمانية والعربية الملهمة، وإعطاء مساحة حوارية عميقة بعيدًا عن النمطية السائدة في الإعلام التقليدي، وكان الهدف بناء منصة تُعبر عن صوت الشباب، وتناقش القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بأسلوب بسيط ومباشر، من قلب المجتمع وإليه.

دخل مادي مستدام

وتحدث سعادته عن التحديات، وقال: هناك عدة تحديات، منها: ضعف الدعم المؤسسي والتمويلي، وقلة الوعي المجتمعي حول أهمية البودكاست كمنصة معرفية، وغياب الحاضنات والمسرعات الإعلامية المتخصصة، وندرة منصات التوزيع المحلية والتقنية الخاصة بالإنتاج الصوتي.

وحول مستقبل البودكاست في عُمان، يرى سعادته أنه رغم التحديات الحالية، إلا أن صناعة البودكاست في عُمان سيكون لها مستقبلًا واعدًا، حيث تشير المؤشرات الإقليمية والعالمية إلى تنامٍ كبير في جمهور البودكاست، ويتوقع سعادته أن تشهد سلطنة عمان حراكًا في هذا المجال مع ارتفاع الوعي وتطوّر أدوات الإنتاج والدعم.

واستند في ذلك إلى مؤشرات تُظهر تصاعدًا كبيرًا في جمهور البودكاست، مشيرًا إلى أن عدد مستمعي البودكاست باللغة الإنجليزية وحدها تجاوز 400 مليون مستمع عالميًا، بينما لا يزال جمهور البودكاست العربي يُقدّر بحوالي 11 إلى 15 مليون مستمع نشط فقط؛ أي ما يعادل أقل من 4% من السوق العالمي، مما يوضح الفجوة الكبيرة ويعكس حجم الفرصة المتاحة.

الاستثمار في البودكاست

ولفت سعادته إلى أن صنّاع المحتوى بحاجة إلى عدد من الأدوات والتشريعات لتطوير منصاتهم، والتي تشمل إطارًا تنظيميًا يشجع الاستثمار في المحتوى الصوتي والإعلام الرقمي، وصناديق دعم أو منح حكومية وخاصة لتطوير المشاريع الصوتية، ومساحات إنتاج واستوديوهات متاحة بأسعار مدعومة، ودورات تأهيلية مهنية لتطوير مهارات الإعداد والتقديم والإنتاج.

وطرح سعادة عبدالله الهنائي عددًا من الأمثلة العالمية على الاستثمار في البودكاست، وهي: شركة Spotify استثمرت أكثر من مليار دولار في الاستحواذ على شركات بودكاست مثل Gimlet Media وAnchor، وشركة Amazon استحوذت على شبكة Wondery للبودكاست مقابل أكثر من 300 مليون دولار، إضافة إلى شركات كبرى مثل Meta وApple وGoogle بدأت بدعم إنتاج المحتوى الصوتي الأصلي ضمن منصاتها.

وأجاب سعادة عبدالله الهنائي حول سؤال هل تمكنت من تحقيق دخل مادي من البودكاست؟ وما مصادر هذا الدخل؟ بقوله: للأسف، حتى الآن لم نتمكن من تحقيق دخل مادي مستدام من البودكاست في سلطنة عُمان، حيث لا توجد مصادر دخل واضحة أو كافية تُسهم في استمرارية هذا النوع من المشاريع، إضافة إلى غياب الرعاة، وصعوبة إقناع المؤسسات بأهمية الاستثمار في المحتوى الصوتي، يشكلان عائقًا كبيرًا أمام تطور هذا المجال، ونعتمد حاليًا على جهود ذاتية وموارد شخصية.

وفيما يتعلق بتفاعل المؤسسات الحكومية أو الخاصة في دعم صناع المحتوى الصوتي، أشار سعادته إلى أنه حتى الآن لا يوجد تفاعل منهجي من المؤسسات لدعم صناع المحتوى الصوتي، ولكن توجد مبادرات فردية ومحاولات مشكورة، لكنها غير كافية ولا توازي الجهد المبذول، آملًا سعادته أن تدرك المؤسسات، خاصة الإعلامية والتعليمية، أهمية هذا القطاع، وأن تتجه لدعمه بشكل عملي ومستدام، لما له من دور في تعزيز الهوية الوطنية ونشر المعرفة بطرق حديثة تتماشى مع طبيعة الجيل الجديد.

دخل مادي

وفي سياق متصل، أوضح حفيظ جعبوب، صانع المحتوى الصوتي ومؤسس بودكاست "مع حفيظ"، الذي تجاوز عدد مشاهداته أربعة ملايين، أن فكرة إطلاق البودكاست جاءت بعد سنوات من العمل في إعداد وتقديم البرامج الإذاعية والتلفزيونية على شاشة تلفزيون سلطنة عُمان، وقناة مجان الفضائية، وإذاعة مسقط FM، وعدد من القنوات المحلية والإقليمية.

وقال: إن التجربة الإعلامية التقليدية آنذاك، وقبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، كانت تعتمد على أدوات محدودة مثل التلفزيون، والمذياع، والصحف، والتي رغم قوتها وانتشارها، كانت تتيح تواصلًا أحادي الاتجاه مع الجمهور، وتفتقر إلى التفاعل المباشر وتقييم ردود الفعل بشكل فوري.

وأشار إلى أن بروز البودكاست كمنصة جديدة في دول مجاورة، وما لاقاه من إقبال واهتمام لافت من الجماهير، شكّل دافعًا قويًا له لخوض هذه التجربة.

وأضاف: كنت أتابع حلقات بودكاست مع عبدالرحمن أبو مالح، أحد أبرز رواد البودكاست في الوطن العربي، ولاحظت حجم التأثير الذي أحدثه، إذ حققت حلقاته ملايين المشاهدات؛ حينها شعرت أن الأساليب التقليدية لم تعد كافية للتأثير في المتلقي، فقررت في عام 2023 أن أبدأ بإعداد وتقديم بودكاست (مع حفيظ)، بالتزامن مع فعاليات موسم خريف ظفار.

وتابع حفيظ جعبوب قائلًا: ما أسعدني هو التفاعل الواسع الذي حظيت به بعض الحلقات، إذ تلقيت إشادات جماهيرية وردود فعل إيجابية حول أسلوب الحوار والمحتوى المقدم، مما عزز قناعتي بقدرة هذا النوع من المحتوى على الوصول والتأثير.

وأكد حفيظ جعبوب أن الطموحات تتجاوز حدود الإنتاج الصوتي، قائلًا: الهدف من البودكاست يتعدى الترفيه، فنحن نسعى إلى إحداث حراك ثقافي وفكري يخدم مختلف شرائح المجتمع، ويضيف قيمة معرفية حقيقية للمستمع.

وأوضح حفيظ جعبوب أن الدخول في عالم الإعلام، بالتحديد هذه النوعية من الأعمال "البودكاست"، سيصبح له تأثير مجتمعي بما يحقق رفع مستوى التفاعل عبر منصات التواصل الاجتماعي وتحقيق الفائدة المادية. وفيما يتعلق بمصادر الدخل، لا شك أن البودكاست في كثير من الأحيان يسلط الضوء على قضايا محلية بطريقة تفاعلية سلسة وتحفز النقاش العام، وهذا يشكل دافعًا للمؤسسات الحكومية والقطاعات الخاصة بأن تساهم وتدعم عملية الإنتاج، وكذلك يمكن القول إن قناة اليوتيوب كمنصة بث تعزز من دخلك المالي من خلال أرباح المشاهدات والمعلنين.

وأشار حفيظ جعبوب إلى أن أبرز التحديات لصناعة البودكاست تتمثل في العزوف الكبير من قبل المشاركين، والحصول على الضيوف المتخصصين نظرًا لتحفظهم الكبير في طرح معلوماتهم الخاصة بمؤسساتهم، وكذلك تخوفهم من الردود والتعليقات السلبية.

ويرى حفيظ جعبوب أن مستقبل البودكاست في سلطنة عُمان يبشر بأن القادم أفضل، لأن منصات التواصل الاجتماعي أظهرت عددًا كبيرًا من الشباب المبدعين الموهوبين في إنتاج البودكاست، كونه يسهم في تنمية الوعي المجتمعي؛ ولكن المشتغلين في هذا المجال بحاجة إلى تبنٍّ من قبل الجهات المعنية الإعلامية الرسمية والخاصة بهذا القطاع، كون مستقبل البودكاست يحمل فرصًا كبيرة إذا أُحسن استغلالها.

وفي معرض رده حول الأدوات أو التشريعات أو أشكال الدعم التي يحتاجها لتطوير منصته، يقول حفيظ جعبوب: إعطاء مساحة أكبر لحرية التعبير دون قيود، لأن المعلومات التي يصرح بها الضيوف تمثل رأيًا شخصيًا، وكذلك تبنّي المؤسسات الحكومية والخاصة لمثل هذه البرامج الحوارية.

ولفت حفيظ جعبوب إلى أنه يوجد تفاعل من المؤسسات الحكومية والخاصة لدعم صناع المحتوى الصوتي، ولكن بشكل محدود، لأن الحصول على الضيوف لمناقشة مواضيع متعلقة بتلك المؤسسات، نظرًا لاعتمادهم الكلي على القنوات الإعلامية الرسمية.

تكلفة التشغيل

وعلى صعيد مماثل، أوضح أحمد الشبلي، مؤسس شبكة "منصة" للبودكاست، التي بلغ فيها إجمالي عدد المشاهدات 5 ملايين مشاهدة على اليوتيوب والإنستجرام والتيك توك، أن تجربة المنصة لم تكن الأولى له؛ ففي السابق أسس بودكاست "جلسة كرك" مع محمد الهنائي، وكان يقدمه على مدار عامين برفقة زميله محمد، ثم أطلق تجربة بودكاست "منصة"، والآن تحولت "منصة" إلى شبكة محتوى تضم مجموعة من البرامج والمقدمين.

وأفاد أحمد الشبلي أن الدخل المادي الذي يحققه البودكاست لا يتخطى تكلفة تشغيله في سياق تجربته الشخصية.

وتحدث أحمد الشبلي عن التحديات الجوهرية التي تواجه صناع المحتوى الصوتي في سلطنة عُمان، موضحًا أن إنتاج البودكاست ليس مهمة فردية، بل يتطلب فريق عمل متكامل يضم مصورًا، ومعدًّا، ومقدمًا، ومديرًا للمحتوى وغيرهم، وهو ما يجعل من الصعب الاستمرار في ظل غياب الدعم المالي، وقال: "من المستحيل أن يُنجز شخص واحد بودكاست متكامل بمستوى احترافي، وإيجاد فريق متفرغ للعمل وضخ المحتوى في ظل انعدام العائد المادي يشكل عقبة حقيقية أمام الاستمرارية".

وعلى النقيض من التفاؤل الذي يبديه بعض صناع المحتوى، يعبر أحمد الشبلي عن رؤية مغايرة لمستقبل صناعة البودكاست في سلطنة عمان، حيث يصف المشهد الحالي بقوله: "الوضع محبط، صناع البودكاست لا يتلقون أيّ شكل من أشكال الدعم الحقيقي الذي يمكن الاعتماد عليه للاستمرار، فالمبادرات جميعها بمجهودات فردية، وتعاني لأجل الاستمرار".

ولفت الشبلي إلى أن من أبرز التحديات التي واجهها في بداياته كانت إيجاد بيئة مجهزة ومكان مناسب مزود بالأدوات التقنية اللازمة لإنتاج محتوى صوتي احترافي، موضحًا بقوله: "تخطيت أصعب عقبة تواجه صناع المحتوى الصوتي الجدد، وهي إيجاد مكان وبيئة مزودة بالأدوات المخصصة، لكن أي صانع محتوى جديد يحتاج إلى أدوات، ومكان مجهز، وأشخاص مختصين يقدمون له الاستشارات والإرشاد الفني".

وحول مدى التفاعل المؤسسي مع صناع المحتوى، أشار الشبلي إلى وجود بعض أوجه الدعم المعنوي، مثل التسهيلات المحدودة والدورات التدريبية، إلا أنه أكد غياب أي دعم مالي مباشر، قائلًا: "تلقيت بعض التسهيلات، وشاركت في دورات وبرامج تدريبية، لكن على مستوى الدعم المالي، لم أحصل على أي دعم يُذكر".