قراءة في المجتمع الصناعي
ترددت في عنوان هذا المقال الذي أردته -بداية- ليكون "أزمة المجتمع الصناعي"، ولكن كلمة "أزمة" تحيل إلى وجود التشاؤمية في هذا العنوان؛ لأعتمد عنوانًا آخر يُخفي هذه التشاؤمية بغلاف تأملي؛ أحاول بواسطته قراءة مشهد المجتمع الصناعي أو ما يمكن أن نطلق عليه -وفقًا للتطور الصناعي الحديث- المجتمع الرقمي. سيعيد مصطلح "المجتمع الصناعي" البعض إلى البيان الشهير "المجتمع الصناعي ومستقبله" الذي نشره عالم الرياضيات الأمريكي "تيد كازينسكي" الملقب ب"مُفجّر الجامعات والطائرات" الذي حاول بمقاله الطويل هذا وبأساليب التفجير الممنهجة للجامعات والطائرات لفت انتباه العالم بمخاطر التقنية. لست بصدد التعاطي السلبي "المفرط" للصناعة وطفراتها الرقمية الحديثة كما فعل "كازينسكي"، ولكنني أرغب في فهم هذا المجتمع من الداخل، عبر الفهم الموضوعي لمآلات هذا المجتمع وتأثيراته الإيجابية والسلبية مع وجود القراءة الذاتية التي تعكس الرأي الشخصي دون الضرورة إلى الإخلال بالمبادئ الجمعية "العامة".
يتبادر إلى الذهن أن المقصود بالمجتمع الصناعي هو المجتمع المتمدن الذي يعيش تحت وطأة الصناعة ومصانعها التي لا تعرف الكلل والملل عبر الإنتاجية المستمرة التي تسعى إلى مضاعفة الأرباح وبلوغ الثراء مع فقدان ضوابط الحقوق والواجبات العادلة للطبقة العاملة، ويصح هذا التعريف إلا أنّه يتسع ليشمل كل أنماط الحياة المتحضرة المنبثقة من رحم الصناعة وتفرعاتها بدءًا من الثورة الصناعية الأولى المتمثلة في ظهور الآلة البخارية التي كانت بداية النقلة النوعية للمجتمعات من المجتمع الزراعي "السائد" إلى المجتمع الصناعي، ويمتد إلى وقتنا حيث ثورة التقنيات الرقمية المتقدمة. يلحظ المتابع لتاريخ الحضارة الإنسانية الذي يشمل تاريخ تطور المجتمعات "المادي" المصاحب لتطور العلم حدوث التأثير الإيجابي المتمثل -في بعض مظاهره- في تحسّن المستوى المعيشي للفرد -بشكل خاص- وللمجتمعات -بشكل عام- حيث قادت الصناعة إلى إنشاء الوظائف التعاقدية التي خلّصت الطبقات البشرية العاملة "البسيطة" من رتق القيود الإقطاعية المتمثلة في القطاع الزراعي الذي يكون -في كثير من حالاته- أحد مظاهر العبودية وفق آلية العمل الشاق نظير الرضى بالقليل؛ فبدأت -مع نشأة المجتمعات الصناعية- ملامح التحرر "المادي" الذي صنع للإنسان فرصًا مالية أكثر تنوعًا ضاعفت من دخله المالي؛ مما قاده إلى تحسين مستويات التعليم والصحة، وفي بعض الحالات بلوغ مستويات جيدة من الرفاهة المعيشية والاستقرار الأسري. بدأ كل هذا يتسع مع اتساع الرقعة الصناعية؛ وبالتالي تتسع رقعة المجتمعات الصناعية التي دخلت إلى مرحلة التكتلات ذي الطابع المادي حيث تلوح -بشكل واضح- تأثيرات الصناعة ومنتجاتها الاستهلاكية، وهنا تكون البشرية مع حقبة صناعية أكثر نضجًا -من حيث الجانب المادي- ولكن في المقابل أكثر بدائية -من حيث الجانب الأخلاقي-؛ إذ لم تحاول هذه المجتمعات الصناعية الصاعدة إيجاد التوازن الذي يضبط المتطلبات الخارجية مع المبادئ "الأخلاقية" الداخلية، وهذا ما شكّل ما يمكن أن نطلق عليه "المجتمعات الصناعية اللاواعية" التي تعاملت مع الإنسان ليكون مجرد وسيلة للإنتاج والاستهلاك؛ فغابت القيم الإنسانية العليا المتمثلة في العدالة والرحمة والإحسان، وركنتْ إلى القيم المادية "التعاقدية" الفارغة من مضمونها الإنساني؛ فقيمة الإنسان فيما يملك من مال وسلطة وعلم ومهارة أما دون ذلك فليس إلا زيادة تشكل عبئا -غير محتمل- على المجتمعات الصناعية غير المستفيدة منهم؛ لنجد مظاهر البؤس والفقر والأمية والجهل والمرض؛ فينقسم العالم -حتى وقتنا- إلى مجتمعات متفاوتة -من حيث التطور- تُحدد وفق المعايير الصناعية -أبغض من تلك التي سبقت حقبة المجتمعات الصناعية- منها المجتمعات الصناعية المتقدمة، والمجتمعات شبه الصناعية النامية، والمجتمعات المتخلفة التي إما أن تكون قادرة على الاستهلاك أو ساعية لنيل المعونة من المجتمعات الأكثر تقدمًا. لست قاصدًا تعميم هذه المعادلة الحضارية "وفقًا للنمط الصناعي"، ولكن من الواقع الموضوعي فهذه هي مظاهر الحياة بناءً على مقتضيات القواعد الصناعية مع وجود نماذج قليلة ونادرة تحاول استثمار وجودها في المجتمعات الصناعية بوجود المسؤولية الإنسانية العامة المقدمة على المنفعة الفردية الخاصة.
في مظاهر أخرى للمجتمعات الصناعية وخصوصًا المجتمعات الصناعية الحديثة المرتبطة بالأنظمة الرقمية المتقدمة -مثل التي في وقتنا- نجد توجهًا جديدًا يطرأ على هذه المجتمعات الصناعية -بجانب مشكلتها القديمة والطويلة المذكورة في الفقرة السابقة- وهو التفكك الأخلاقي على المستويات الفردية والأسرية والمجتمعية، وبلوغ مستويات الهشاشة الإنسانية؛ ففي المظاهر السابقة كنا نرى غياب المسؤولية المجتمعية وفق مبدأ التعاقدية المبني على المصلحة المادية المتبادلة دون أي قيمة للمبادئ الإنسانية الأخلاقية غير المعنية بالمصلحة المادية، أما في المظاهر الجديدة للحقبة الصناعية الحالية تظهر طفرات فردانية تُحدث انفصامًا داخل المنظومة الفردية؛ لتؤثر -تلقائيًا مع اتساع نطاقها الفردي- على المستوى الأسري والمجتمعي، ومن هذه الطفرات -التي تتلقى دعم المجتمعات الصناعية المتقدمة- الشذوذ الجنسي "المثلية" وما يصاحبه من طفرات متفرّعة منه مثل التحول الجنسي ومنح الطفل حق اختيار جنسه وتغييره دون أي اعتبارات أسرية ونفسية. نرى كذلك تسارع الطفرات الرقمية التي تقود الإنسان داخل المجتمعات الصناعية إلى الهشاشة المعرفية بجانب الهشاشة النفسية؛ فوفقا لدراسات علمية كثيرة ثمّة تراجع في القدرات التعليمية والمعرفية داخل المجتمعات الصناعية، وهذا يرجع إلى أسباب كثيرة منها الإدمان الإلكتروني عبر الملهيات الرقمية المتعددة، وميل الإنسان (في المجتمع الصناعي) إلى الدعة والراحة المفرطة التي تبعده عن النشاط المعرفي، وهذا سيتضاعف مع النمو الرقمي مثل نماذج الذكاء الاصطناعي التي أخذت تقتحم جميع قطاعات الحياة. لم تسلم كذلك صحة الإنسان في المجتمعات الصناعية؛ حيث فقدت الأغذية قيمتها الغذائية والصحية بسبب المعايير الصناعية التي تهتم بالربح المالي ولو على حساب الصحة؛ فنرى تضاعف انتشار الأمراض المزمنة مثل السمنة والسكري وأمراض القلب برغم التقدم الصحي.
لست من دعاة مغادرة المجتمعات الصناعية أو من دعاة التنصل من المسؤولية العلمية بجميع فروعها ولكنني أدعو إلى تحرير المجتمعات الصناعية من مشكلاتها الأخلاقية القديمة ومن طفراتها الحديثة، وأحد الحلول الممكنة هي تجديد لغة الخطاب الديني والثقافي (بما فيه الخطاب الصحي والاجتماعي) ليواكب مفاهيم الإنسان المعاصر الذي يعيش عصر الصناعة المتقدمة؛ ليقوم بدوره البنّاء في تأسيس النزعة المعرفية الحرة -التي لا تتجاوز القيم الأخلاقية والإيمانية الثابتة- الداعية إلى بناء مجتمع صناعي فاضل يوازن بين متطلبات النمو الحضاري وبين متطلبات القيم الإنسانية؛ فسبق أن دعوت إلى التوافقية العلمية الدينية؛ إذ لا تنازع بين دين سليم وبين علم سليم، وهذا ما أشرت إليه في مقالي السابق المنشور في الأسبوع المنصرم، فأجد ضرورة وجود الشك المنهجي الداعي إلى محاكمة العقل لظواهر الوجود المحسوسة وغير المحسوسة؛ فتتزاحم الأسئلة التي سيبحث العقل عبر أدوات المعرفة المتوفرة عن أجوبة لها دون توقف حتى بلوغ اليقين النسبي دون وضع الدين عائقًا إلا في حالة الاصطدام مع البديهيات الضرورية المُتَّفِق على وجودها النص الديني "السليم" والمنطق العقلي "السليم"؛ إذ لا يتناقض معقول "سليم" مع منقول "سليم"، ومثال هذا قضية وجود الله الذي لا يملك العلم أداة في الإثبات والإنكار، ولكن بوجود النص الذي يوافق المقتضيات العقلية نصل إلى مرحلة "الإيمان" الذي نتعامل بواسطته مع قضايا غير محسوسة قد يعرّفها البعض -وفق المصطلح الفلسفي- بالقضايا الميتافيزيقية، ووفق المصطلح الديني بالقضايا الغيبية، وهذه الرؤية تقترب من الفلسفة الكانطية التي حاولت الموافقة بين العقلانية والتجريبية دون إخلال بالضرورة الإيمانية. أعود إلى مجتمعنا الصناعي الذي أطمح أن أراه مجتمعًا فاضلًا مسايرا لمستجدات الصناعة والتقنية دون إهمال للبعد الأخلاقي الذي يعزز من تماسك المجتمعات وقوتها.
* د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
