المدينة الفاضلة.. كما قدمها توماس مور

08 يوليو 2023
08 يوليو 2023

يعد توماس مور ١٤٧٨ – ١٥٨٥ م، أحد الرواد الكبار في تاريخ الفكر والأدب والقانون، الذين ظهروا خلال عصر النهضة الإيطالية وما تبعها من نهضات عمت معظم الدول الأوروبية، ومن بينها إنجلترا التي كانت الأكثر تأثرا بالنهضة الإيطالية، وهو ما نجم عنه ظهور مفكرين وأدباء كبار في كل مناحي المعرفة، يعد توماس مور أحد أبرز هؤلاء الرواد، فقد أكمل دراسته القانونية في جامعة أكسفورد وارتبط بكبار أساتذتها، من قبيل ليناكر وكولين ووليم جروسين، أجاد توماس مور اللغتين الإغريقية واللاتينية، وقد انخرط في الشأن العام وخصوصًا في القضايا ذات الطابع الاجتماعي والإنساني، وحظي بشهرة كبيرة في كل أنحاء بريطانيا، لذا اختير عضوا في مجلس العموم البريطاني ١٥٠٤، ولم يكن قد تجاوز السادسة والعشرين عامًا، حقق مور شهرةً كبيرة في مهنة المحاماة، لفتت إليه نظر الملك ( هنري الثامن)، فضمه إلى الفريق الذي يشتغل بالعلاقات الاقتصادية بين إنجلترا ومختلف الدول الأخرى، وكان ماهرًا في دفاعه عن مصالح إنجلترا، لذا منحه الملك لقب سير Sir، ثم أصبح رئيسا لمجلس العموم البريطاني ١٥٢٣. ما لبث الخلاف أن دب بين الملك وتوماس مور حول قضيتين كانت حديث المجتمع البريطاني، وهو طلاق الملك من زوجته (كاترين) ليتزوج بأخرى ( آن بولين )، فضلا عن موقف مور من حركة الإصلاح الديني في إنجلترا، ورفض مور الأخذ برأي الملك في هاتين القضيتين، لذا وُجهت إليه تهمة الخيانة العظمى، ودخل السجن لمدة عام، بعدها حُكم بإعدامه ونُفذ فيه الحكم ٧ يوليو (١٥٣٥).

المهم في هذا الموضوع هو الكتاب الذي عكف مور على كتابته خلال فترة سجنه، والذي يصور فيه رحلة خيالية ذهب فيها إلى جزيرة خيالية أيضا، وأطلق على كتابه (يوتوبيا Utopia)، وفي هذا الكتاب قدم المؤلف صورة مثالية للحياة الفاضلة التي ينشدها، وتقوم فكرة الكتاب على أن مور قابل في مدينة ( أنفرس) صديقا له يعد واحدا من العلماء الكبار (روفائيل هتلو داي)، كان ضليعا في اللغتين اللاتينية واليونانية، متمتعا بثقافة كبيرة في علوم الفلسفة، وقد أفاض ( هتلو داي ) عن أسفاره ورحلاته لبلاد كثيرة زارها، وكان من بينها جزيرة (يوتوبيا )، وأفاض في وصفها وسلوك شعبها وتضاريسها ومدنها وأنهارها وقوانينهم وحياتهم السياسية والاجتماعية، ومن بين ما سمعه مور من صديقه ( هتلو داي )، أن الشخص الذي تزداد معارفه السياسة والاجتماعية يستطيع أن يقدم خدمات جليلة للحاكم بعلمه وأفكاره، ويستدرك هتلو داي: إن الملوك يكرهون عادة مثل هذا المستشار.

يضيف هتلو داي انه أقام في جزيرة يوتوبيا خمس سنوات، وأهلها يتحدثون لغة واحدة، ويرتدون زيا واحدا، ويفرض القانون على سكان يوتوبيا أن ينسجوا ملابسهم بأنفسهم، وعلى كل أسرة أن ترسل كل عام عددا من أبنائها للعمل في الريف لممارسة مهنة الزراعة لمدة عام كامل، وإذا كان العمل فرضًا على كل مواطن في جزيرة ( يوتوبيا ) فان قوانينها تحدد ساعات العمل، التي لا تزيد عن ست ساعات، وعلى السكان أن يناموا مبكرين لا يتجاوزون الثامنة مساءً، ولا يُسمح بالزواج للفتاة قبل الثامنة عشرة من عمرها، والشباب اثنين وعشرين عاما، ولا ينفصم عقد الزواج إلا بالموت أو ارتكاب فاحشة الزنا.

يمضي هتلو داي في حديثه فيقول ( إن المرأة في جزيرة يوتوبيا لا يحق لها أن تهتم بمستحضرات التجميل، ولا ترتدي الملابس الخليعة التي تُظهر مفاتنها، فالعبرة بالجمال الطبيعي)، تفرض الحكومة في جزيرة يوتوبيا حدا أقصى لعدد أفراد الأسرة، ويوجد في جزيرة يوتوبيا حين زارها هتلو داي أربع وخمسون مدينة، وحرية الانتقال بين المدن ليست مطلقة، بل تتم بتصريح من الحكومة التي تحدد له مدة الزيارة. لا يأخذ المسافر معه زادا أو متاعا فهو أينما حل يجد غذاءه وإقامته، ولا يحق له أن يبقى بغير عمل في مكان ما أكثر من يوم واحد، فإذا طالت إقامته عن يوم كان عليه أن يزاول مهنته فورا.

في تصوير بديع يمضي توماس مور مقدمًا ما قاله صديقه ( هتلو داي ) فيقول: إذا تعرضت مدينة لأزمة غذائية أو نقص في الملابس، فعلى بقية المدن الأخرى أن تهب لدعم المدن الفقيرة، وإذا زاد الإنتاج في مدينة ما فإن الكميات الزائدة يتم نقلها إلى المدن المجاورة الفقيرة. وأهل ( يوتوبيا ) يحتقرون الذهب والفضة، ويكتفى منه بصناعة شارات نزلاء السجون، وقيود أرباب السوابق، وحرية العقيدة مكفولة لجميع السكان، ولا يوجد في الجزيرة من يتخذ الدين مهنة، لأن السكان جميعًا يؤمنون أن السعادة في العالم الآخر مرتبطة بمسألة واحدة وهي: أن يقضي الإنسان عمره في عمل مثمر منتج شريف. وأهل يوتوبيا يأخذون المجرمين بالشدة، فكل من ارتكب جرمًا يصير عبدا، ويفرض عليه القيام بأشق الأعمال دون رحمة.

أهل ( يوتوبيا ) وفق ما يقول به ( هتلو داي ) يمقتون الحرب، ويرون أنها نكسة ترتد بالإنسانية إلى عصور الهمجية، وهي ضرب من الوحشية، ويختتم توماس مور كتابه بقوله: تلك هي ( يوتوبيا ) التي لا تعرف الفقر، ولا يملك إنسان لنفسه شيئًا، ومع ذلك كل الناس سعداء راضون، ثم يمضي توماس مور ناقدا نظم الحكم في بلاده قائلًا: أليست بلادنا ظالمة قاسية حين تُكيل المال للمتنفذين، الذين لا يعملون، ثم تغل يدها للحارس والصانع والعامل الذين لا دولة بدونهم، وقد استهدف توماس مور في كتابه ( يوتوبيا ) حملة عنيفة على النظام الرأسمالي وسوء توزيع الثروة، وقد سعى إلى إعادة تنظيم العلاقات الدولية على أسس جديدة عادلة، وقد أفاض بحديث ممتع عن أهمية التسامح الديني وضرورة القضاء على المذاهب الدينية، التي تسببت في الاقتتال، وحصدت أرواح مئات الألوف من الفقراء، ولعل توماس مور كان بعيد النظر في هذه القضية، حينما قامت الحروب الدينية في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وبهذا يكون توماس مور هو أول من دق ناقوس الخطر لهذه المأساة قبل وقوعها.

حقق هذا الكتاب شهرةً واسعة منذ بداية عصر الطباعة، حينما تُرجم إلى كل اللغات الأوروبية، وذاعت شهرته في كل أصقاع العالم، وأن الكثير مما قال به توماس مور لا يزال يمثل قدرًا كبيرًا من الحكم الرشيد.