الترجمة أداة لتحديث الثقافة العربية «3-3»
انتهيت في مقالي السابق إلى القول بأن هناك حركة ترجمة في عالمنا العربي لا تزال محدودة على المستوى الكمي، ولكننا حينما نقيس وضع الترجمة في عالمنا العربي على المستوى الكيفي، وليس مجرد المستوى الكمي، فإننا نلاحظ أيضًا ضعفًا واضحًا في معظم الترجمات العربية. وهذا يستدعي السؤال عن مدى الوفاء بشروط الترجمة، ومن ثم جودتها.
وهنا لا بد أن أصارح القارئ برأيي في هذا الصدد، وهو أن بعض الترجمات العربية لأمهات الكتب في عصرنا الراهن هي ترجمات لا قيمة لها؛ إذ يصعب عليك فهم صفحة واحدة منها، في حين أنك لو رجعت إلى ترجمتها المعتبرة بلغة أخرى، سوف تجد أنها مفهومة تمامًا، فما بالك لو رجعت إلى النص الأصلي! وهذا يجعلنا نتحسر على افتقادنا إلى روعة ودقة وجمال ترجمات أساتذتنا العظام فيما مضى من أمثال: زكي نجيب محمود وعثمان أمين وزكريا إبراهيم، وغيرهم. فما الحل إذن؟ كيف يمكن علاج هذا الداء؟ من الواضح أننا لا يمكننا علاج هذا الداء بأن نناشد دور النشر الخاصة التي تنشر مثل هذه الترجمات بأن تتوخى الدقة ومراعاة شروط الترجمة الرصينة؛ لأن دور النشر الخاصة في عالمنا العربي ليست بدور نشر مرموقة لديها مستشارون متخصصون يعرفون الغث من الثمين، فهي لا تعبأ سوى بالربحية على حساب الحِرفية، وهي لا تعبأ بالحفاظ على سمعة مرموقة لها، إلا فيما ندر؛ فلن تجد سوى بضع منها تسعى إلى بناء سمعة مرموقة لها في هذا الصدد. وليس لنا أن نسأل دور النشر الخاصة عما تفعله بصناعة الترجمة على نحو يسيء إليها؛ فذلك أمر يتعلق في النهاية بمكانة دار النشر وسمعتها. ولكن ما يمكن التغاضي عنه فيما يتعلق بدور النشر الخاصة، لا يمكن التغاضي عنه فيما يتعلق بدور النشر الحكومي. وعلى هذا فإن صناعة الترجمة ينبغي أن تكون أولوية حكومية في بلداننا وفقًا لضوابط وشروط صارمة وخطط استراتيجية فيما يتعلق بنهضة الترجمة كمًا وكيفًا؛ فهذا هو السبيل الوحيد لنهضة الترجمة، ولمواجهة حالة ضعف الترجمات التي تصدرها معظم دور النشر الخاصة؛ وسوف يترتب على هذا خلق حالة من التنافس بين النشر الحكومي العام والنشر الخاص الذي يسعى إلى مجرد الربح على حساب الجودة والقيمة لما يتم نشره؛ لأن القارئ المتلهف إلى المعرفة سوف يلجأ بطبيعة الحال إلى الترجمات المدعومة حكوميًّا، ويحجم عن الترجمات التي تنشرها دور النشر الخاصة ما لم تكن جيدة، وذلك وفقًا للحكمة الخالدة التي تقول: العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة.
وربما يُقَال هنا إن التغيير ينبغي أن يأتي من المجتمع ومن الجماعات المهنية الخاصة لا من الحكومات، وهذا قول صحيح؛ ولكننا لا ينبغي أن نتناسى أبدًا أن دور المجتمع والجماعات لا يُستبان إلا بعد نهضته واستقراره بإفساح المجال له لينهض ويرتقي؛ أما قبل ذلك فإن المسؤولية تقع على عاتق الدولة أو مؤسسة الثقافة. ولنا في التاريخ عبرة كما سبق أن قلنا، فلم تنهض حركة الترجمة في الحضارة العربية إلا عندما كان أولو الأمر يعرفون أهمية الترجمة ويدعمونها، بل يكيلون وزن الكتاب المترجم بالذهب! ونحن لا نريد للحكومات العربية الآن أن تكيل الكتب المترجمة بوزنها من الذهب، بل نريد فقط أن تدعم الترجمة باعتبارها مشروعًا قوميًّا، وأن تشجع دور النشر الخاصة التي تُعنى بالترجمة، وما إلى ذلك مما لا يخفى على كل لبيب.
وعلى هذا، فإن كان لنا أن نقرر هنا توصيات للنهوض بالترجمة في عالمنا العربي، يمكنني أن أوصي هنا بما يلي:
*أن تكون حركة الترجمة مشروعًا ثقافيًّا قوميًّا في الدول العربية، شريطة ألا ننشئ مجرد مراكز للترجمة نسميها قومية، بينما هي لا تعدو أن تكون مجرد دار نشر كبيرة للترجمة. أعني أن الترجمة ينبغي أن تكون مشروعًا قوميًّا بحق، تنفق الدولة عليه بسخاء، باعتباره أداةً فاعلة بقوة في عملية النهوض بالثقافة.
*إنشاء دور نشر مركزية في الجامعات العربية الكبرى، تُعنى بالترجمة من خلال تكليف الأساتذة المتخصصين بترجمة ما هو جدير بالترجمة في إبداعات الشعوب الأخرى في سائر المجالات. وأنا أرى أن يكون هذا التكليف شرطًا ضروريًّا لاستمرار عمل الأساتذة المتعاقدين بعقود عمل في الجامعات العربية كافةً. ذلك أن الأستاذ الذي لا يجد في مجال تخصصه ما يستحق الترجمة إلى العربية هو- في الحقيقة- أستاذ لا يواكب المستجدات في مجال تخصصه، ولا يقدر على أن يضيف شيئًا جديدًا إليه.
*الاهتمام بالترجمة كأداة لتلاقح الثقافات، ليس فقط من خلال نقل معارف وثقافات الحضارات الأخرى، وإنما أيضًا من خلال نقل معارف وثقافة الحضارة العربية، بما في ذلك الإبداعات العربية الراهنة في العلوم والثقافة عمومًا. والحقيقة أن هذا التلاقح بين الثقافات له فائدة عظيمة على أرض الواقع غير النهوض بالثقافة وتطوير المعرفة؛ لأنه يؤدي في النهاية إلى تراجع حالة الانغلاق على الذات، ومن ثم تراجع النزعات العنصرية والاستعلائية إزاء الأخر.
وبما أنني أكتب في هذه الجريدة الأولى بسلطنة عُمان الحبيبة إلى نفسي، فإنني أتمنى أن تكون هذه الجريدة نافذة تصل من خلالها توصياتي إلى أولي الأمر بالسلطنة، لعل بعضًا منها يمكن تحقيقه. ولقد سألت بعض المسؤولين من أصدقائي في عمان إن كان هناك مركز قومي للترجمة في عُمان، ومنهم سفير عُمان بالقاهرة عبد الله الرحبي، فأجاب بالنفي، ولكنه أبدى استحسانه لهذا المقترح، خاصةً أن هناك الآن أساتذة في جامعة السلطان قابوس يمكنهم الاضطلاع بهذه المهمة. وأنا من جانبي أرى أنه إذ تعذر إنشاء مراكز قومية حقيقية للترجمة في بلداننا العربية في المرحلة الراهنة، فإنه يمكن- على الأقل كبداية- إنشاء مراكز للنشر بجامعة السلطان قابوس وغيرها من الجامعات العربية، تُعنى بنشر الكتب المترجمة بجانب إصدارات الكتب المرموقة للأساتذة.
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل».
