الترجمة أداة لتحديث الثقافة العربية «1-3»
بناء على ترشيح المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي، تلقيت دعوة كريمة من معالي وزير الثقافة بمملكة المغرب محمد المهدي، لإلقاء محاضرة بمعرض الرباط للكتاب تحت عنوان «الترجمة أداة لتحديث الثقافة العربية»، ومن حسن الحظ أن شاركني في تلك الندوة أستاذ الأدب المقارن المرموق وليد حمارنة، الذي التقيته أول مرة في ندوة مشتركة بمعرض الكتاب في مسقط منذ عقد من الزمان. والواقع أن النظر إلى الترجمة باعتبارها أداة لتحديث الثقافة العربية هو حقيقة بديهية، فكيف نفهم تلك الحقيقة؟ وكيف يمكن إرساؤها في واقعنا العربي الراهن.
يجب أن نفهم المسألة في إطارها الأكثر عمومية، أعني أن نفهم دور الترجمة عموما في بناء الثقافة، ومن ثم الحضارة؛ لأن الثقافة بمعناها الواسع Kultur (كما يفهمها الألمان بوجه خاص) تعني أيضا الحضارة. ذلك أن الحضارة لا تعني التقدم أو الأخذ بمظاهر التحديث؛ فكم من الدول في عالمنا الراهن تشيع فيها صور التحديث، ولكنها ليست متحضرة؛ ببساطة لأنها ليست مُنتِجة للمعرفة والعلم والثقافة التي أنتجت مظاهر التحديث والتقدم، ومن ثم فإن المعرفة والعلم والثقافة لا تشكل وعي شعوبها، ولا أساليبها في التعليم والإبداع.
وحينما نتأمل نشأة الثقافات، ومن ثم الحضارات، في هذا الإطار العام؛ فإننا سنجد أن الترجمة كانت أهم عوامل تلك النشأة. استفادت الحضارات والثقافات الناشئة من الحضارات السابقة عليها: كان هذا هو حال الحضارة اليونانية القديمة التي استفادت من الحضارات السابقة عليها، خاصة الحضارة المصرية القديمة. وحينما ننظر في تلك المسألة، سنجد أن هناك أمورًا عديدة مهملة تستحق أن نتوقف عندها بغرض التأمل والتدبر وتقييم موقفنا في عصرنا الراهن.
القول بأن الفلسفة هي اختراع يوناني على غير مثال، هو قول أجوف يجافيه المنطق والتاريخ: ذلك أنه وفقا للحكمة اللاتينية القديمة، فإنه «لا شيء ينتج من لا شيء» (أي لا شيء ينتج من العدم) ex nihilo nihil، ولو إننا راعينا تلك الحكمة الخالدة نفسها، فسوف نجد أن الفلسفة والحكمة اليونانية لم تنشأ من عدم، وإنما من خلال حكمة الحضارة المصرية القديمة السابقة على الحضارة اليونانية. ويكفي في هذا الصدد أن نرجع إلى كتاب جورج جيمس بعنوان: «التراث المسروق: الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة» الذي ترجمه شوقي جلال ضمن إصدارات المشروع القومي للترجمة بمصر، والذي يؤكد على أن الفلسفة اليونانية هي نتاج الفلسفة المصرية القديمة التي نقل عنها معظم كبار فلاسفة اليونان بعد زيارتهم لمصر بدءًا من طاليس مرورًا بفيثاغورث وأفلاطون «الذي تعلم على أيدي كهنة معابد أون أو مدينة الشمس التي تسمى الآن عين شمس»، وأرسطو نفسه الذي زار مصر مع تلميذه الإسكندر الأكبر الذي نهب مكتبة الإسكندرية الملكية وسمح لأرسطو باقتناء العديد من الكتب التي نقل عنها بعد ترجمتها. ما أود قوله من وراء هذا هو أن نهضة الحضارة والثقافة اليونانية قامت على نقل حكمة المصريين القدماء التي ظلت مقصورة على التعليم الشفاهي لأسرار العلوم إلى أن غزا الفرس ومن بعدهم الإسكندر الأكبر مصر؛ فتم السماح بنقل النصوص المدوَّنة.
ولقد حدث هذا الأمر ذاته مجددا حينما دار التاريخ دورته ليعيد نفسه: فبعد تراجع الحضارة اليونانية/الرومانية لدى القدماء في أوروبا، انتقل مركز الحضارة إلى العالم العربي منذ أواخر القرن السابع وحتى القرن الرابع عشر الميلادي تقريبا. وبوسعنا القول بأن ذروة حركة الترجمة كانت في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وهو عصر النقل الذي مهد لعصر النقد والإبداع، وهي حركة ساهم فيها بقوة الفرس والسريان. وقد بدأت إرهاصات حركة الترجمة مع الخليفة أبي جعفر المنصور أواخر القرن الثاني الهجري، وتألقت من بعده مع الخليفة المأمون في أوائل القرن الثالث الهجري. ولقد أنشأ الرشيد والد المأمون دار الحكمة التي كانت الأساس الذي قامت عليه مدرسة بغداد. وكانت الترجمة تقوم على نقل المعارف اليونانية إلى السريانية ومنها إلى العربية، وبذلك ساهمت الترجمات العربية في حفظ التراث اليوناني ذاته من الضياع. وفي فترة ازدهار الترجمة في عصر المأمون كانت هناك شروط دقيقة للترجمة، فلا يُعهَد بالترجمة إلا للمترجمين الثقات والمدققين العارفين بالأصول التي ينقلون عنها. وقد برز في هذا العصر أسماء مترجمين عظام، منهم على سبيل المثال: حُنين بن إسحاق الذي ترجم العديد من كُتب أبقراط في الطب، وأبو بشر متّى ابن يونس القنائي الذي ترجم كتاب أرسطو في «الشعر»، والحجاج بن يوسف بن مطر البطريق الذي ترجم لأرسطو كتب «الحيوان» و«السماء والعالم» و«الآثار العلوية». لقد استفادت الحضارة الغربية من هذه الترجمات والشروح عليها، كما نجد في كتابات الفارابي وشروح ابن رشد، فكان هذا مقدمة لبعث هذه الحضارة بعد أن تعرفت على ذاتها وتراثها المطمور الذي سبق أن استفاد بدوره من حكمة الحضارة المصرية المطمورة، وتلك هي حركة التاريخ التي يتم تجاهلها حينما تنظر الشعوب إلى حضارتها كما لو كانت نبتا شيطانيًّا.
ومن المهم أن نضع في اعتبارنا دائما أن حركة الترجمة هي حركة مزدوجة، بمعنى أنها تنتقل من الأصل أو المصدر إلى لغة أخرى (وهي في حالتنا اللغة العربية)، ولكنها تفترض أيضا أن يواكب ذلك حركة معكوسة تنقل عن هذه اللغة الأخرى إلى لغة المصدر؛ فبذلك تتلاقح الحضارات، ومن ثم الثقافات. ولكن هذا لا يحدث إلا بين حضارتين قائمتين بالفعل، أو بين حضارة قائمة وفاعلة وأخرى ناشئة أو ناهضة، وهذا يستدعى السؤال عن وضعنا العربي في حركة الترجمة.
السؤال الآن ما وضع الترجمة في عالمنا العربي الآن، وما شروطها في عصرنا الراهن، وإلى أي حد يتم مراعاة تلك الشروط؟ ذلك ما سوف نتناوله في مقالنا التالي.
