نحن.. وتقنين أنظمة الذكاء الاصطناعي

09 مايو 2023
09 مايو 2023

كل شيء يبدأ من الولايات المتحدة الأمريكية وينتهي إليها.. هذه هي خلاصة تتبع المخترعات الجديدة في كل عصر، خاصة في عصر ما بعد الإنترنت، وعصر ما بعد شبكات التواصل الاجتماعي. الآن يعيش العالم مع ما قال الأمريكيون من البداية إنها «ثورة أنظمة الذكاء الاصطناعي»، التي اجتاحت كل مجالات الحياة، رغم أنها ما زالت في بداياتها. وأصبحت الحاجة ماسة لتنظيمها ووضع القوانين والتشريعات والمواثيق الأخلاقية التي تحكم تطويرها والتعامل معها من جانب الشركات الكبرى، واستخدامها من جانب الأفراد.

مبكرا ودون تأخير بدأت الإدارة الأمريكية كعادتها البحث عن تنظيم قانوني لأنظمة الذكاء الاصطناعي مستفيدة من دروس التاريخ السابقة، والتي شملت تنظيم كل وسائل إنتاج وتوزيع المعرفة ووسائل الإعلام بدءا من الطباعة والصحافة، مرورا بالسينما والراديو والتلفزيون، ثم الإنترنت. ومع تزايد الاستخدام الجماهيري لبرامج وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وفي ظل تحذيرات علمية رصينة من التوسع في هذه الأنظمة ومخاطرها الواضحة والمتوقعة على البشرية وعلى الإبداع الإنساني بوجه عام، وعلى القيم والأخلاق المتفق عليها، سارع البيت الأبيض إلى عقد أول اجتماع الخميس الماضي، ضم مسؤولين من إدارة الرئيس جون بايدن ورؤساء شركات التقنية العملاقة التي تعمل في حقل إنشاء هذه الأنظمة وإدارتها وتطويرها مثل شركة «أوبن ايه آي»، وهي الشركة الأم لنظام «شات جي بي تي» ذائع الصيت حاليا، و«جوجل»، و«ميكروسوفت» و«انتروبك».

التحرك الحكومي الأمريكي المبكر -إلى حد ما- لتنظيم سوق وصناعة أنظمة وبرامج الذكاء الاصطناعي جاء مدفوعا بتحذيرات عديدة أطلقها علماء ومفكرون وحتى تقنيون بارزون من الذين عملوا على تطوير تلك الأنظمة لسنوات طويلة، مثل «جيفري هينتون» أحد رواد الذكاء الاصطناعي الذي استقال مؤخرا من شركة «جوجل»، حتى يتحدث، كما قال في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بحرية عن مخاطر أنظمة الذكاء الاصطناعي. وتشمل تلك المخاطر، من وجهة نظره، أن هذه التكنولوجيا يمكن أن تصبح في الواقع أكثر ذكاء من البشر، كونها أنظمة عصبية قادرة على معالجة كميات كبيرة جدا من البيانات، وهو ما يمكن أن يجعلها أكثر كفاءة من الدماغ البشري، ويمكن أن تعطل سوق العمل بشكل كبير وتلغي الملايين من فرص العمل، وهو أمر حدث بالفعل ولن يسلم منه حتى الأشخاص الأكثر ذكاء، والأكثر تعليما، حتى وإن اعتقد بعضهم أنهم في مأمن من ذلك.

ومن المخاطر التي يتوقعها «هنتون» أيضا أنه في ظل التقدم التكنولوجي السريع للغاية، مع عدم وجود تنظيم لاستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي، قد يكون من الصعب التحكم في مخرجاته في المستقبل، وبالتالي يمكن أن تمثل الإصدارات المستقبلية لهذه الأنظمة تهديدا حقيقيا للبشرية، إذ سيكون بإمكانها تطوير سلوكيات غير متوقعة بعد تحليل كمية كبيرة من البيانات، وهو ما قد يحولها، على حد وصفه، إلى «أسلحة مستقلة» و«روبوتات قاتلة». ويُضاف إلى ذلك المخاوف المشروعة من إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري من قبل دول أو جماعات متطرفة، وتطوير «جنود آليين». وأخيرا يحذر «هنتون» من خطورة المعلومات المضللة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، ويقول إن الاستخدام الواسع لأنظمة الذكاء الاصطناعي سيجعل من المستحيل تقريبا تمييز ما هو صحيح عما هو كاذب. إذ تتميز تلك الأنظمة بالقدرة اللغوية العالية التي تمكنها من إنتاج عبارات ونصوص تبدو معقولة ومقنعة دون أن تكون صحيحة.

ويكفي للدلالة على إمكانيات التضليل الهائلة التي تتسم بها الأنظمة الحالية للذكاء الاصطناعي ما نشرته صحيفة واشنطن بوست الجمعة الماضية عن اختراع موقع «شات جي بي تي» فضيحة تحرش جنسي ونسبتها إلى محام كبير وأستاذ للقانون، والاستشهاد بمقال مزيف نشر في صحيفة الواشنطن بوست في مارس 2018 كدليل، وتبين أن هذا المقال ليس له وجود على الإطلاق. وفي أستراليا نقلت وكالة رويترز أن رئيس إحدى البلديات هدد برفع أول دعوى تشهير ضد شركة «أوبن أيه آي»، ما لم تصحح مزاعم كاذبة بأنه قضى فترة في السجن بتهمة الرشوة.

وليس بعيدا ما تم مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عندما تداول مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي صورا مزيفة لاعتقاله في مارس الماضي، تم الحصول عليها من برامج الذكاء الاصطناعي. إذ طلب أحد الأشخاص من البرنامج تصوير مشهد سقوط ترامب أثناء القبض عليه، فأنتج صورة للرئيس السابق أثناء اعتقاله، الذي لم يقع على الإطلاق، محاطا برجال الشرطة.

في ظل هذه المخاوف يصبح من الضروري الوقوف عند المحاولة العالمية الأولى لتقنين تطوير واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي ليس فقط من قبيل دعمها والإشادة بها، ولكن لكي نتعلم منها في عالمنا العربي. فالمخاطر التي يتحدث عنها الخبراء لن تكون مقصورة على أجزاء ودول من العالم دون أجزاء ودول أخرى، كما أننا لسنا في معزل عما يجرى في العالم من حولنا. وعلى هذا الأساس فإن التعامل الأمريكي مع الثورة الجديدة يمكن أن يرسم لنا خارطة طريق لتعاملنا مع نفس الثورة وتعظيم الاستفادة منها وتقليل مخاطرها على الدول والمجتمعات والأفراد.

إن أول ما لجأت إليه الإدارة الأمريكية هو الحوار رفيع المستوى الذي عقد في البيت الأبيض وشارك فيه الرئيس الأمريكي ونائبته بشكل مباشر مع صانعي ومطوري ومديري تلك الأنظمة. فالتشريعات والقوانين التي تؤثر في حياة الناس ومستقبلهم لا تصدر إلا بعد التشاور والحوار، وتأخذ طريقا قد يطول للمرور على مجلسي الكونجرس لتعود للرئيس مرة أخرى. وطوال هذه المراحل تتسع الصدور والعقول لكل الآراء لكي تتصارع بحرية في مجال عام مفتوح. ولأن الرئيس الأمريكي -كغيره من البشر- لا يفهم في كل شيء، فقد اكتفى في هذا الاجتماع بوضع الهدف الوطني الرئيسي من تنظيم مجال أنظمة الذكاء الاصطناعي، وهو «ضمان استفادة الناس بأمان من الذكاء الاصطناعي»، والتأكيد على أن الشركات العاملة في هذا المجال «تتحمل مسؤولية أخلاقية ومعنوية وقانونية لضمان سلامة منتجاتها قبل طرحها للمستخدمين على نطاق واسع».

الأمر الثاني الذي لجأت إليه الإدارة الأمريكية وما زلنا نفتقده في عالمنا العربي، هو إخضاع الثورة الجديدة للبحث العلمي الجاد من جانب المتخصصين، وذلك حتى تبقى الولايات المتحدة في طليعة ثورة الذكاء الاصطناعي العالمية. إذ قررت إدارة الرئيس بايدن تقديم منح بحثية بقيمة 140 مليون دولار لتمويل معاهد أبحاث الذكاء الاصطناعي الوطنية، وزيادة عددها، وتطوير أبحاث الذكاء الاصطناعي في كل المجالات من الصحة العامة إلى الأمن السيبراني، في عدد من الجامعات الكبيرة مثل جامعة ميريلاند، وجامعة كاليفورنيا، وجامعة مينيسوتا. وتمثل هذه المنح جزءا بسيطا من مليارات الدولارات التي تستثمرها شركات التقنية العملاقة لتطوير تلك التكنولوجيا الجديدة. وعلى سبيل المثال فقد استثمرت شركة ميكروسوفت 10 مليارات دولار لتطوير نظام «أوبن آيه آي».

أعتقد أنه من حقنا أن نسأل: أين نحن أو بالأصح أين حكوماتنا من هذه الثورة؟ وهل سوف ننتظر سنوات لكي ندرك خطورة أنظمة وتطبيقات وبرامج الذكاء الاصطناعي لكي ننظم التعامل معها ونضع لها التشريعات التنظيمية؟ لماذا لا نبادر، وقد اتضحت الأمور كثيرا حول هذه الثورة التكنولوجية الجديدة، إلى تمويل البحوث حولها، وتوقع مردوداتها الإيجابية والسلبية علينا، والاستعداد لما يمكن أن يتولد عنها من مشكلات وقضايا، حتى لا نبقى دائما في انتظار الآخر، وانتظار ما نعجز عن تخيله.