في العنف السياسي للحرب
حين يتحول ظاهر العنف السياسي إلى محتوى للعنف العاري من شاكلة العنف الذي تشهد العاصمة السودانية الخرطوم منذ يوم 15 أبريل الجاري، لا ينطوي هذا العنف على أي بوصلة أخلاقية، وهو عنف يدل على استهتار بحياة المواطنين، على نحو يعكس بوضوح أن فعل العنف السياسي الذي يمارسه القادة هو على النقيض من أهداف المواطنة.
الحرب، في كل أطوارها سلوك إنساني عنيف، لكن، مع ذلك، ثمة أنواع للحروب تحدد طبيعتها، فليس مطلق الحرب هو أمر يمكن تجنبه في الحياة الإنسانية، فتناقضات العواطف والغرائز والمصالح بين البشر -وهي تناقضات دائمة- هي التي تقع خلف الأسباب التي تشعل الحروب عادة.
لقد كان الانتقال السياسي في السودان، رغم التعثر الطبيعي الذي صحبه، يبدو مآلًا لا بد منه، حتى اندلعت هذه الحرب للمرة الأولى على نحو غير مسبوق بين طرفين عسكريين من المفترض أنهما يعبّران عن وجهة نظر واحدة.
الغريب في الأمر أنه بالرغم من اندلاع العنف السياسي في السودان بين الطرفين (طرف عسكري هو الجيش السوداني، وطرف شبه عسكري وهو الدعم السريع) مطلع هذا الأسبوع فإن في بروباغاندا كل طرف ما يؤكد على الالتزام بالاتفاق السياسي الإطاري، وهو الاتفاق الذي كان بمثابة خريطة طريق للانتقال السياسي في السودان بمباركة ورعاية قوى دولية وإقليمية وازنة كالآلية الرباعية (التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات).
اليوم، لا يزال العنف السياسي الذي يخوضه الطرفان ضد بعضهما البعض، يعكس صراعًا بينيًّا، ولم يتطور الأمر إلى حرب أهلية -لا سمح الله- ومما يدل على إمكانية لاحتواء هذا العنف في هذا الوقت المبكر، هو عدم انخراط أي من الحركات المسلحة الأخرى، وهي خمس حركات كبرى، للاصطفاف مع أي من فريقي العنف السياسي.
إن أهمية احتواء العنف السياسي بين الفريقين في السودان في توقيت مبكر (وهو توقيت يراهن عليه رئيس الوزراء السابق الدكتور عبدالله حمدوك) يكمن في أن القدرة على امتثال الجنود لأوامر القادة من طرف الفريقين هو الأمر الحاسم في وقف الحرب، ما دامت عنفًا سياسيًّا لم يتطور بعد إلى حرب أهلية.
ولعل من أبرز العوامل التي يراهن عليها المجتمع الإقليمي والدولي في احتواء العنف السياسي الدائر في السودان، هو أن السودان يقع في منطقة جيوسياسية، عربيًّا وأفريقيًّا، وبالتالي فإن انهيار الدولة المركزية فيه ستعني دخول الإقليم كله من شرق أفريقيا إلى غربها في حالة حرب، نظرًا لأن السودان اليوم تحده 8 دول عربية وأفريقية.
والخوف من امتداد العنف السياسي اليوم في الخرطوم إلى شهور سيعني أمورًا خطيرة على حياة السودانيين، فالتركيبة الإثنية المتعددة للشعب السوداني قبليًّا ومناطقيًّا ربما تستجيب للانخراط مع تمدد زمن الحرب وعندها سيكون من الصعوبة بمكان احتواء الحرب في السودان.
لقد مر السودان بحروب أهلية عديدة منذ أكثر من 60 عامًا راح ضحيتها مليونا مواطن، وأدّت إلى انقسام السودان إلى دولتين، حيث انفصلت دولة جنوب السودان عن السودان في عام 2011 لا لأي سبب جوهري، وإنما لطبيعة البنية الأيديولوجية لنظام البشير الذي تحولت بموجبها حرب الجنوب، من حرب ذات أسباب زمنية، إلى حرب ذات أسباب دينية تفجر معها العنف على نحو ما جعل من المتحاربين أي إمكانية للعيش مع بعضهما البعض.
ولأن الأيديولوجيا تظل أيديولوجيا في تعبيرها عن الوعي الزائف، فقد كانت الحرب في دارفور (ودارفور جميع سكانها مسلمون) هي الحرب الأهلية الثانية التي دخل فيها السودان منذ عام 2003 والتي راح ضحيتها 3000 مواطن!
اليوم تتجدد الحرب في قلب الخرطوم وينخرط فيها طرفان عسكريان تحالفا على حكم السودان، لكن بدا الخلاف بينهما على خلفية الالتزام بالخروج من العملية السياسية وفقًا لبنود الاتفاق الإطاري الذي وقّعه الطرفان، حيث يقتضي توقيعهما بوصفهما جسمين عسكريين، أن يندمجا في جيش واحد تتلخص مهمته في حماية الحدود وحماية الدستور.
يبدو واضحًا أن العنف السياسي الذي اندلع في 15 أبريل الجاري في الخرطوم بين؛ قوة عسكرية (الجيش) وأخرى شبه عسكرية (الدعم السريع) لن يكون سببًا في انتصار إحداهما على الأخرى لأن تاريخ الشعوب أثبت؛ أن الحوار والتفاوض، لا البندقية، هو من يجلب السلام.
