السياسة النقدية وأزمة البنوك

09 أبريل 2023
09 أبريل 2023

ترجمة قاسم مكي -

السياسة النقدية ليست هي وحدها المسؤولة عن أزمة البنوك، إذن من أو ما هو المسؤول؟ لماذا بعد 15 عاما من بداية آخر أزمة مالية ربما نشهد أزمة أخرى؟ (السياسة النقدية هي الإجراءات التي يتخذها البنك المركزي للسيطرة على كمية النقود في الاقتصاد مثلا من خلال رفع أو خفض أسعار الفائدة - المترجم).

بالنسبة للعديدين الخلل يكمن في الفترة المديدة التي شهدت أسعار فائدة بالغة التدنِّي، وفي نظر آخرين في سياسة الإنقاذ المالي التي صارت أشبه بعقيدة راسخة.

لسنا بحاجة إلى أن نذهب بعيدا في البحث عن الجذور الفكرية لمثل هذه الآراء، إنها تتموضع في علم الاقتصاد النمساوي، فكما ذكر أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا برادفورد ديلونج في كتابه الممتاز «التسكع نحو اليوتوبيا» إنها تلك النظرة التي تزعم أن السوق تتحكم في كل شيء، والنمساويون ليسوا مخطئين تماما، كما أنهم ليسوا محقِّين تماما.

الحجة في جوهرها هنا هي أن الأزمة المالية في الفترة من 2007 إلى 2015 كانت ثمرة سياسة نقدية مفرطة في توسعها وبالتالي عطّلت هذه السياسة النقدية الميسَّرة زائدا، عمليات إنقاذ البنوك «التدميرَ الخلاق» الذي كان من شأنه إعادة الاقتصاد إلى عافيته وحيويته، ثم أخيرا بعد جائحة كوفيد -19 تسببت سياسة نقدية توسعية أخرى اقترنت بها سياسة مالية توسعية أيضا في ارتفاع التضخم وفي المزيد من الهشاشة، والآن حان وقت الحساب، هكذا ببساطة، لكن هذا ليس صحيحا. لنبدأ بما كان يحدث قبل الأزمة المالية، كانت بريطانيا تُصدِر سندات مرتبطة بمؤشر أسعار المستهلكين منذ أوائل الثمانينيات، وأكثر ما اتصفت به هذه السلسلة من الإصدارات الهبوط الكبير في عائداتها الحقيقية من 5%، وهي الذروة التي بلغتها في عام 1992 إلى 1.2% في عام 2006، ثم إلى ناقص 1.4% في عام 2013، وناقص 3.4% في عام 2021، لكن البنوك المركزية لوحدها لا يمكن أن تسبب هبوطا يزيد عن 8% في أسعار الفائدة الحقيقية خلال ثلاثة عقود، وإذا كان هذا الهبوط الضخم في أسعار الفائدة الحقيقية مخالفا لحاجات الاقتصاد فمن المؤكد أن التضخم سيتصاعد.

إذن ما الذي كان يحدث؟ التحولات الكبيرة التي شكلت خلفية لما كان يحدث تمثلت في التحرير المالي، والعولمة، وولوج الصين إلى اقتصاد العالم، وهذان العاملان الأخيران لم يقتصرا فقط على خفض التضخم، بل أدخلا الصين وهي بلد لديه وفورات فوائض ضخمة في اقتصاد العالم، إضافة لذلك أوجد تزايد اللامساواة داخل بلدان الدخل المرتفع، وشيخوخة السكان مدخرات فوائض ضخمة في بعضها أيضا وخصوصا ألمانيا، حينها لزم وجود استثمار استثنائي مدفوع بالائتمان وخصوصا في العقار السكني؛ لموازنة الطلب والعرض العالميين، وأعان التحرير المالي على تيسير هذا الازدهار الائتماني بصرف النظر عما إذا كان ذلك شيئا إيجابيا أم سلبيا.

كل هذا انفجر في الأزمة المالية، والقرار الذي اتُّخِذ حينها هو: يجب ألا يكون هنالك ركود عظيم آخر على شاكلة الركود العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.

أنا لست نادما على تأييدي لذلك القرار الذي لا تحتاج حكمته إلى تبرير، لكن بالنظر إلى حقائق اقتصاد العالم وأثر الأزمة المالية كان يلزم حينها إما أن يكون هنالك دعم مالي مستمر أو سياسة نقدية توسعية إلى حد بعيد، وتم استبعاد البديل الأول، لذلك وجب اللجوء إلى الخيار الثاني.

تكشف البيانات الخاصة بعرض النقد لماذا كانت هنالك ضرورة لأسعار الفائدة الفائقة الانخفاض وللتيسير الكَمِّي،

بعد الأزمة المالية العالمية كانت هنالك فترات ممتدة اتسمت خلالها المساهمة الخاصة في نمو عرض النقد بالسلبية؛ لأن الائتمان كان يتقلص، ولو كانت أسعار النفط أكثر ارتفاعا، ولم توسِّع البنوك المركزية قاعدةَ النقد لكان عرض النقد قد انهار.

أنا لست من المؤمنين بقدرتنا على تثبيت الطلب بتثبيت عرض النقد، لكن تركه لكي ينهار موضوع آخر، ميلتون فريدمان (اقتصادي أمريكي 1912- 2006) كان سيعتبر إجراءات البنوك المركزية في تثبيت نمو عرض النقد بمعناه الواسع بعد الأزمة المالية ضرورية، وبالتأكيد أنا اعتبرها كذلك.

ثم جاء كوفيد 19 عندها اتخذت السلطات النقدية والمالية ما اتضح لاحقا أنها أخطاء كبيرة، فقد انفجر نمو النقود، وحسب صندوق النقد الدولي قفز العجز المالي الهيكلي للاقتصادات الرئيسية لمجموعة السبع بنسبة 4.6% في الفترة بين 2019 و2020، وبالكاد تقلص في عام 2021.

هذا الاقتران بين نمو النقود وتزايد العجز المالي غذّى ارتفاعا في الطلب كان أكبر من أن يقابله العرض بالنظر إلى إغلاقات الصين المتكررة وحرب أوكرانيا، وكانت النتيجة تصاعدا مؤقتا في التضخم وارتفاعا في أسعار الفائدة، وهو ما سبب صدمة أخرى لنظامنا المصرفي الهش.

البنوك المركزية ليست مُحرِّكات دُمَى شريرة كما قد يتخيلها البعض، لكنها هي نفسها دٌمَى تحت سيطرة بعض القوى القاهرة (كالضغوط السياسية والأوضاع الاقتصادية والأحداث العالمية - المترجم) نعم ارتكِبت أخطاء، ربما كان من الواجب الاتجاه أكثر نحو سياسة نقدية معاكسة للدورة الاقتصادية قبل الأزمة المالية وذلك برفع سعر الفائدة لخفض الضغوط التضخمية والتعجيل بإنهاء التيسير الكمي بعد الأزمة وسحب الدعم النقدي بسرعة أكبر في عام 2021، لكن بالنظر إلى نظامنا المالي المُحرَّر، والصدمات الهائلة التي تعرض لها اقتصاد العالم أشك في أن أيَّا من ذلك كان سيُحدِث فارقا كبيرا، فالأزمات كانت حتمية.

بالتأكيد على جوقة النقاد أن توضح بدِقة ما الذي كان يمكن أن تُوصي به بدلا عن ذلك والآثار المتوقعة لبدائلها، نحن بحاجة إلى تحديد الافتراضات المعاكسة لما حدث بالفعل وحسابها كمِّيَّا، مثلا إلى أي حد كان من الممكن رفعُ أسعار الفائدة؟ وما حجم الانهيار المالي والتدهور الاقتصادي والارتفاع في معدل البطالة الذي كان سيتوقعه هؤلاء النقاد بعد الأزمة المالية؟ ولماذا يتصورون أن الشركات ستزيد استثماراتها إذا كانت أسعار الفائدة أعلى؟ وحتى إذا كانت الإنتاجية قد تحسنت بالتخلص من الشركات غير القادرة على سداد ديونها والمعتمدة في بقائها على تدني سعر الفائدة، ودعم الحكومة لماذا سيكون ذلك شيئا جيدا إذا شملت تكاليف التخلص منها إنتاجا أقل ولفترة أطول؟

البنوك المركزية مثلها مثل كل المؤسسات الإنسانية ليست مثالية وأحيانا تكون عاجزة، لكنها ليست معتوهة.

وجهة النظر القائلة: إن الخلل الذي لحق باقتصاداتنا في العقود القليلة الماضية يتمثل أساسا في اتباع سياسة نقدية توسعية ليست صحيحة، وترتكز على وَهَم بوجود حلٍّ بسيط لإخفاقات أنظمتنا المالية واقتصاداتنا الحقيقية.

لن تكون الحال أفضل إذا لم تفعل البنوك شيئا، ونحن لا يمكننا اتخاذ القرارات الاقتصادية بمعزل عن الحقائق السياسية، يجب تكييف السياسة الاقتصادية مع عالمنا وليس مع القرن التاسع عشر.

مارتن وولف كبير معلقي الاقتصاد بصحيفة الفاينانشال تايمز.