فن ما بعد الحداثة
الفن عبر التاريخ مرتبط بروح عصره التي تتمثل في فكره وعلمه وأحواله الاجتماعية والسياسية. وعلى هذا، فإننا نجد أن الفن في العصر الحديث كان مرتبطا بالفكر الفلسفي السائد في هذا العصر وبالمكتشفات العلمية التي حدثت فيه، ولهذا فإننا نجد على سبيل المثال أن رؤية الفن باعتباره تعبيرا عن رؤية الذات وحالاتها الانفعالية، كانت مرتبطة بظهور الفلسفات التي تؤكد على أهمية الذات، وتدعو إلى التحرر من القواعد والأطر العقلية في النظر إلى العالم. كما أننا نجد شواهد على ذلك في فن التصوير الذي تأثر بالنظريات العلمية الفيزيائية في مجال الضوء، وهو ما تبدى بوجه خاص في المدرسة الانطباعية التي تركز على التحولات التي تطرأ على مظهر الأشياء بفعل الضوء. فن الحداثة إذن كان ثورة على معايير وقواعد الفن الكلاسيكي، ولكنه ظل فنا تحكمه معايير وقواعد أساسية خاصة به، مثل: التأكيد على الذاتية، وإطلاق العنان للفنان في التعبير عن مشاعره وانطباعاته الذاتية، والتأكيد على أهمية الشكل أو التشكيل الجمالي باعتباره مناط التعبير عن منطق ومعقولية الفن، أي باعتباره مناط التعبير عن الفكرة المتعقلة في العمل الفني... إلخ.
أما فن ما بعد الحداثة، فهو فن يقوم أصلا على أساس التحرر من أية قواعد أو معايير، بل التحرر من التصنيفات الفنية نفسها: فمن ناحية، نجد أن هناك رفضا للمعايير الكلاسيكية والحداثية معا؛ فليست هناك قواعد أو معايير محددة ملزمة للفنان كي يكون فنانا؛ وبذلك فإن فن ما بعد الحداثة يتخذ شعارا له هو: «كل شيء جائز ومقبول» everything goes. ومن ناحية أخرى، نجد أن التصنيفات بين الفنون نفسها تتلاشى أيضا: فلم تعد هناك تلك القسمة الشهيرة للفنون إلى فنون تشكيلية تفترض الإبداع والعرض من خلال المكان، ولذلك تسمى بالفنون المكانية (كفنون المعمار والنحت والتصوير)؛ وفنون أخرى زمانية تقوم على أساس توالي الفعل أو الحدث في الزمان (كالأدب والموسيقى على سبيل المثال). بل إن فن ما بعد الحداثة يُسقط من حسابه وحدة الفن الواحد، كما في فن التصوير الذي أصبح متداخلا مع وسائط تكنولوجية عديدة؛ ناهيك عن التصوير الرقمي لبعض الفيديوهات التي يقوم بصناعتها بعض الهواة والنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، ويروِّجون لها باعتبارها أعمالا فنية تجتذب أعدادا هائلة من المعجبين بالملايين!
ولا شك في أن فن ما بعد الحداثة -بدوره- لم ينشأ من فراغ؛ إذ مهدت له وصاحبته نظريات علمية وتيارات فلسفية: ففي عصرنا هذا سادت فكرة اللاحتمية في مقابل فكرة الحتمية، وسقطت فكرة الحقيقة المطلقة، وأصبح هناك تأكيد على نسبية الأشياء، بل نسبية الحقيقة ذاتها. وقد واكب ذلك تيارات فلسفية تَنحو هذا المنحَى في الفهم والتأويل، وتحاول خلخلة وتعرية المعاني التي تقوم عليها الأنساق والنظريات الفكرية، حتى إنها لا تعترف بوجود معنى محدد، بل ترى أن المعنى يكون مُرجأ باستمرار، ومن ذلك -على سبيل المثال- التفكيكية التي رأى البعض أنها تُفضي بنا إلى حالة من العدمية واللامعنى. لقد كان لكل هذا تأثير مباشر على فن ما بعد الحداثة؛ إذ رأى أنصاره أن طبيعة الفن هي التحرر من أية معايير؛ لأن المعايير كلها نسبية، وكل فن يخلق معاييره الخاصة كما يراها الفنان.
لنأخذ أمثلة عملية توضح لنا الأمر هنا. كان المعيار السائد في فن المعمار الكلاسيكي هو معيار السيمترية (أي: التماثل بين أجزاء البنيان)، ولكن فن الحداثة قد تحرر من هذا المعيار، لا بمعنى إنكاره، وإنما بمعنى أنه تبنى معيارًا أعم منه هو التوازن؛ لأن التوازن لا يتحقق فقط من خلال الأجزاء المتماثلة، وإنما يتحقق أيضًا من خلال الأجزاء غير المتماثلة أو المتضادة التي تخلق حالة من التوازن في العمل ككل. أما فن معمار ما بعد الحداثة، فقد رأى التحرر من أية معيار، بما في ذلك معيار التوازن نفسه، حتى أصبحنا نرى أعمالا فنية معمارية تقوم على أجزاء متنافرة ومُشكلة بطريقة فوضوية، بل تميل بعض أجزائها حتى تكاد تُشعرك بأنها سوف تسقط فوق رأسك. وهذه الفوضوية والعبثية تتبدى أيضا في فن التصوير والفن التشكيلي عموما، فأصبح الفنان لا يتقيد بأية فكرة أو معنى، بل قد يجرد العمل التشكيلي نفسه من المعنى أو القيمة حينما يلجأ إلى استخدام الأدوات والأجهزة النفعية التي نستهلكها في حياتنا اليومية ويقدمها باعتبارها أعمالا فنية، وذلك من قبيل التشكيل الخزفي «للمبولة» وعرضها مقلوبة، كما فعل دوشامب في عمله الشهير بعنوان «النافورة»!
والحقيقة أننا نتحفظ على كلمة «ما بعد» نفسها الواردة في مفهوم «ما بعد الحداثة» كما يُستخدم في أي سياق؛ لأنها كلمة بلا معنى أو دلالة، فهي تدلنا فقط على ما يلي فترة الحداثة، ولكننا لا نجد معنى واضحا، سوى التحرر من المعنى والدلالة؛ وبذلك يمكن القول: إن ما بعد الحداثة هي حالة وليست تيارا له ملامح محددة. ولهذا أطلقوا عليها صفة «ما بعد»، ولا ندري بماذا إذن سوف نسمى الحقبة التي تلي حقبة ما بعد الحداثة: هل نسميها حقبة «ما بعد- ما بعد الحداثة»!
وعلى هذا، أرى أن فن ما بعد الحداثة هو فن لا مستقبل له، ولن يدوم طويلا؛ لأنه ببساطة سوف يفضي إلى حالة من الانحطاط في قيمة الفن، ومكانته في نفوسنا وعالمنا، وسيصبح العمل الفني بمثابة «موضة» سرعان ما يتم تجاوزها. وربما يساهم هذا الفن في القضاء على فكرة المتحف نفسه باعتباره المكان الذي يحفظ لنا الأعمال الفنية العظمى التي تبقى عبر الزمان بوصفها تعبيرًا فنيًّا عن عالمنا الإنساني في حقبة زمانية معينة. فعندما تقتني المتاحف صورة لأدوات نفعية مستهلكة «كالمبولة»، فإنها تقوِّض فكرة المتحف من أساسها، باعتباره حاضنا للأعمال التي تصور موضوعات ومعانيَ تبقى على مر الزمان.
