عالمنا الذي يتشكل من جديد

28 فبراير 2023
28 فبراير 2023

سبق أن كتبت مقالًا في هذه الجريدة الرصينة بعنوان «عالم يتجه نحو الجنون»، وأنا أريد أن أضيف شيئًا هنا إلى ما سبق أن ذكرته هناك، وذلك في ضوء المستجدات المتلاحقة في عالمنا التي تستدعي كثيرًا من التأمل. أحداث الزلزال الأخير المدمر الذي وقع في تركيا وامتد إلى سوريا، هي بالتأكيد أحداث مهمة وخطيرة، ولكنها تظل أحداثًا من صنع الطبيعة؛ ومن ثم فإن الأكثر خطورة منها هي تلك الأحداث المدمرة التي يصنعها البشر بأنفسهم، وهي أحداث ليست بالجديدة، وإنما هي تأكيد للحكمة القديمة الخالدة التي تقول: «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان». هذه الحكمة الخالدة تبدو قانونًا من قوانين الطبيعة البشرية، فهي قانون التدافع بين البشر الذي عبر عنه المولى عز وجل بقوله: «ولولا دفع الله الناسَ بعضهم ببعض لهُدمت صوامع وبيّع وصلوات ومساجد يُذكَر فيها اسم الله كثيرًا». في هذه الآية الكريمة يخاطب الله الناسَ بمنطق وسياق عصرهم، ولكنه منطق يظل ساريًّا إلى الأبد، وإن تبدلت صوره وأشكاله.

تنشأ قوى وإمبراطوريات تهيمن على العالم في كل عصر، ثم تؤول إلى الزوال: حدث هذا مع الإمبراطورية الرومانية في قديم الزمان، وحدث هذا أيضًا في العصر الحديث مع الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، ولكن الشمس فارقتها مثلما فارقت كل الإمبراطوريات. هذا الأمر نفسه بدأت أماراته في الظهور بالنسبة إلى الهيمنة الأمريكية على العالم التي لم تتخذ صورتها المعاصرة شكل الإمبراطورية الاستعمارية التقليدية، ولكنها استخدمت قوتها في التوغل في العالم المعاصر بالهيمنة على سياسات الدول ونُظم الحكم فيها، بل تدبير الانقلابات فيها. بل إن هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية تمتد إلى التأثير في قرارات الدول الأوروبية، وفي حِلف الناتو، وفي قرارات المنظمات الدولية، بما في ذلك منظمة الأمم المتحدة نفسها، ناهيك عن مجلس الأمن الذي تَستخدِم فيه حق النقض بطريقة غير عادلة، وهو ما يشهد به -على سبيل المثال- موقفها الدائم في نقض أي قرار يدين الممارسات الغاشمة لدولة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. ولكن هذا النفوذ للولايات المتحدة الأمريكية التي تتزعم الغرب وحلف الناتو، بدأ الآن في التراجع بسبب صعود قوى عالمية أخرى مضادة، على رأسها الصين وروسيا، وهي قوى شاملة بالمعنى الحضاري الواسع؛ فضلًا عن صعود قوة عسكرية نووية أخرى تشكل تهديدًا للولايات المتحدة نفسها ولحلفائها، وهي كوريا الشمالية؛ وهذا هو السبب الحقيقي لخشية الكتلة الغربية من دخول إيران في هذا المعسكر النووي المضاد. هذا يعني ببساطة أن العالم الآن يتشكل من جديد بشكل صريح باعتباره عالمًا متعدد الأقطاب، وهذا هو ما أفصحت عنه تصريحات الرئيسين: الروسي والصيني. لا يريد الغرب أن يفهم هذا التحول الذي يحدث في عالمنا، لا يريد أن يعترف أنه فقد هيمنته على العالم؛ ولذلك نجد الغرب الآن في حالة من التخبط والهذيان، فيصرح زعيمه الأكبر بايدن، والآخرون من زعماء الدول والمنظمات التابعة -مثل زعيم حلف الناتو وزعيمة الاتحاد الأوروبي- بأن الغرب سوف ينتصر في النهاية في الصراع الدائر الآن على أرض أوكرانيا، وسيكون ذلك انتصارًا لقيم الغرب في الحرية والديمقراطية، وهي -في الحقيقة- قيم لا تتحقق غالبًا إلا بالنسبة إلى الشعوب التي تعيش في كنف الغرب وتنتمي إليه، لا إلى غيره!! لا يريد الغرب أن يعترف بأنه بدأ الدخول في مرحلة الأفول باعتباره قوة عظمى وحيدة، وبأنه يؤول الآن لأن يكون مجرد قوة من هذه القوى. هذا التحول في تشكيل العالم هو ما سبق أن أشرت إليه في سلسلة من المقالات بهذه الجريدة الرصينة بعنوان «مستقبل الحضارة الغربية» (أربع مقالات)، وقي مقال آخر بعنوان «عالم يتجه نحو الجنون»؛ فليرجع إلى ذلك مَن أراد الربط بين الأفكار.

هذا الذي قلت يدخل بالضبط في حكمة النص القرآني الحكيم الذي ذكرت في صدر هذا المقال، وهو أن كل هذا الذي يحدث في عالمنا المعاصر يدخل في باب «دفع الله الناس بعضهم ببعض»؛ فلولا هذا الدفع لفسدت الأرض، وعمت سطوة القوة المهيمنة الجائرة التي تتحكم وحدها في حياة الشعوب من دون قوى أخرى مناظرة تحد من قوتها وهيمنها في اتخاذ قرارات تتعلق بمصائر البشر؛ وهذا التوازن يمكن أن يسهم في جعل العالم أكثر اتزانًا (وهو عندي يشبه ذلك الاتزان الذي تُحدثه الزلازل من خلال تصادم الصفائح الأرضية الكبرى، لتستقر بعدها الأرض حينًا طويلًا من الزمن). لا يحدث التدافع بين القوى في يوم وليلة، وإنما يستغرق عقودًا طويلة نشهد ذروتها الآن. ما يحدث الآن في حرب روسيا وأوكرانيا هو تجسيد عملي مباشر لهذه الحالة التي أتحدث عنها، وهو أمر يستحق التوقف عنده قليلًا في هذا السياق، باعتباره يجسد مسرح عمليات هذا الصراع.

الحرب الدائرة الآن منذ سنة بين حلف الناتو الذي يمثل الغرب وبين روسيا، هي مسرح عمليات تشكُّل العالم الجديد. رفع الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية من مستوى التصعيد بالإصرار على دعم أوكرانيا بالأسلحة المتطورة من أجل هزيمة روسيا في مواجهة الناتو الذي يريد أن يتوغل نفوذه إلى أراضٍ خارج حدوده، بحيث يمتد إلى بحر الصين وجزيرة تايوان، وإلى حدود روسيا، حتى في الأراضي التي تنتمي تاريخيًّا وعرقيًّا ولغويًّا إليها والتي يدين سكانها لروسيا ويتحدثون لغتها. أدى هذا التصعيد إلى تصعيد مضاد بتعليق روسيا لمعاهدة New Start التي تحد من استخدام الأسلحة النووية. هذا هو العالم الجديد الذي يتشكل من قوى متعددة، والذي نأمل في ألا ينتهي تشكله باستخدام القوى النووية، وهذا يمكن أن يحدث فقط حينما يعترف الغرب بأنه لم يعد هو القوة الوحيدة في العالم: فالأيام دول، وتلك حكمة الله في الكون. هذا مقال تتداخل فيه الرؤية السياسية مع الرؤية الميتافيزيقية للدين. وقد تحدثنا عن هذا العالم باعتباره «عالمنا» وإن لم نكن نحن العرب وأمثالنا الفاعلين فيه؛ لأننا ننتمي إليه باعتبارنا المفعولين بهم أو المتأثرين بما يجري فيه.