الفـضاءات المغـلقة في رواية «سرّ المـوريسـكي»

20 فبراير 2023
20 فبراير 2023

يُقدّم الكاتب محمد العجمي روايته الأولى (سرّ الموريسكي) الصادرة عام 2021م عن دار عرب للنشر والترجمة بالعودة إلى التاريخ والنبش في أحداثه واستعادة الذاكرة الزمنية للأحداث والأمكنة والشخوص. يستمدُّ التاريخ هنا من المكان الأوروبي ليكون مسرحا لصراع أحداثه، وقضاياه السياسية والدينية، فيعمل الراوي على مدّ الأحداث والانتقال بها من منطقة جغرافية إلى أخرى والتنوع في استنطاق الشخوص وإبراز سماتها الداخلية وانفعالاتها وتكوينها الثقافي والاجتماعي والسياسي والديني...

كما تستنطق هذه الرواية ثقافة الكاتب وإلمامه بالتاريخ عموما، وأحداثه التي وقعت في حقبة تاريخية في أوروبا، صحيح أنّ الرواية تنبني أحداثها على فكرة متخيّلة ولكنها تتقاطع مع التاريخ مستمدة حدثها الرئيس من أزمة الموريسكيين في إسبانيا وعلاقة إسبانيا بغيرها من دول الجوار الأوروبي.

إنّ تهميش إسبانيا للشعب الموريسكي وتشريدهم وتعذيبهم هو الانطلاقة التي أدخلت الرواية في أحداث متشابكة قائمة على البحث عن سرٍّ يحاول الفتى روبرت فكَّ طلاسمه للوصول إلى الحقيقة، لتنكشف معه أسرارٌ أخرى توسَّعَ الكاتب معها في سير الأحداث.

تحشد الرواية عددا كبيرا من الشخصيات منها شخصيات رئيسة تتداخل بصورة كبيرة في الأحداث، ومنها شخصيات تساعد الشخصيات الأخرى على تحريك الأحداث من خلال حوارات سياسية تجري أحيانا فيما بينها، وأحيانا حوارات في الجانب الديني أو المعرفي أو في مجالات أخرى.

إنّ المتأمل في رواية (سرّ الموريسكي) يجدها تنطلق من الاهتمام بالفضاءات عموما كونها مسرحا جغرافيا مهما للتعبير عن الأفكار التي يبني عليها الراوي أفكاره، لكنها تهتمّ على وجه الخصوص بالفضاءات المغلقة التي تتشكّل وفق رؤية مهمة في سير الأحداث، إننا أمام فضاءات تساعد على التشكيل السردي، وعلى الانطلاق زمنيا ومكانيا من مهمةٍ إلى أخرى، كما ترسم صورة واضحة للشخصيات بإبداء انفعالاتها وتوجهاتها الفكرية والثقافية والسياسية والدينية.

للوهلة الأولى نحن أمام فضاء مغلق متمثل في السفينة التي تُشكّل فضاء افتتاحيا في الحكي والانطلاق فيه. السفينة التي تنطلق من نيذرلاندز إلى الأراضي الإنجليزية تحمل أناسا كثيرين، منهم الفتى الإنجليزي روبرت الذي سيقوم بوظيفة الراوي في الرواية. يروي روبرت مشهد تحرك السفينة قائلا: «أبحرت السفينة بعد الظهر بقليل. كان والدي قد اقترح أن أستأجر اثنين من عمّال الميناء لحماية البضاعة، ولكن لم أجد لذلك ضرورة عندما علمت بأنّ سفينتنا ستنضم إلى أسطول كبير من السفن التجارية تحرسها عدّة بوارج حربية. كما أنها مطبعة؛ من سيفكر بسرقة مطبعة؟!».

تمثّل السفينة هنا فضاءَ تنقّلٍ يحمل مطبعة، وهنا تظهر صورة الفكرة المنبعثة من السرد، المطبعة مرادف العلم والمعرفة اللذين ينوي روبرت ووالده نشرهما في إنجلترا، لكن المطبعة عند محاصرة السفينة من السفن الإسبانية تتحول من آلة إلى فضاء يحتمي به صاحبها، ويختبئ داخلها، يقول: «ادّعيتُ مع نفسي أنّ المطبعة كانت أقوى من مدافع الإسبان، لذا دفنت نفسي داخل حلم والدي!».

هكذا يحتمي الإنسان بالمعرفة عند الضرورة، فهي أقوى من الحروب والأسلحة والدمار، وهنا تنضم المطبعة إلى السفينة كونهما فضاءين يضمان الشخصيات ويبدأ الراوي معهما سرد الأحداث.

وإذا اعتبرنا الفضاءين السابقين مهمين فإننا نؤكد على ذلك؛ كون الرواية تقوم على دورهما في آخر أحداثها، إنّ السفينة والمطبعة/ الجانب المعرفي فضاءان مغلقان ساعدا روبرت على تخليص الموريسكي من السجن؛ إذ عملت السفينة على تهريبه من إسبانيا إلى إيطاليا ثم إلى حلب، وساعدت صناديق المخطوطات/ الجانب المعرفي على تهريبه من داخل السجن إلى السفينة. وإذا كانت السفينة قد مثّلت فعل الأسر في أول الرواية فإنها مثّلت فعل الحرية في آخرها، وإذا كانت المعرفة فعل التجاء في أول الرواية، فهي بلا شك فعل نجاة في آخرها.

أما الفضاء المغلق الأهم في الرواية فهو السجن. إذ يمثّل السجن الانطلاقة الرئيسة في سرد الأحداث واتساعها، وذلك بتعرّف روبرت على الموريسكي ورجل الملح وشخصيات أخرى والتعرف على حكايات المسجونين. وتُشكّل حكاية الموريسكي وهروبه من إسبانيا مع أسرته هي الحدث الذي ستقوم عليه الأحداث والذي سيطلق عليه روبرت «سر الموريسكي» الذي هو بصدد الكشف عنه.

تتسع دائرة الأحداث بخروج روبرت من السجن محاولا الكشف عن سر الموريسكي والبحث عن أسرته، وهنا تقوم عملية البحث على منطلقين اثنين: أولها البحث عن أسرة الموريسكي ومحاولة جمع شملهم به، والثاني البحث عن المخطوطات التي سيحصل عليها روبرت وسيقدّمها لوالده وستُعينه على طباعة الكتب العربية والاستفادة منها. وعلى ذلك تتوسع الأحداث وتنتقل بانتقال روبرت من دولة إلى أخرى، فمن إسبانيا إلى فرنسا إلى نيذرلاندز إلى إيطاليا ثم إلى حلب والعودة مرة أخرى إلى الأماكن نفسها.

إنّ جميع الأحداث بعد ذلك انطلقت من فضاء السجن، وكل الفضاءات اللاحقة قامت على فضاء السجن كونه الفضاء الذي شرع السرد أوراقه منه، فكانت جميع الفضاءات اللاحقة لا سيما المغلقة منها مثل: (الأديرة، والغرف، والمنازل، والحانات، والمكاتب، والمطابع، والسفن) لها وظائفها الخاصة في إتمام عملية السرد؛ إذ تدور فيها حوارات مختلفة في الجوانب السياسية أحيانا، وفي الجوانب الدينية، وفي الجوانب المعرفية والتاريخية وغيرها، كما أنها أظهرت الجوانب المختلفة للشخصيات سواء كانت معرفية ثقافية أو الميول والانتماءات الدينية، كما عرضت مجموعة من الحقائق التاريخية وقامت باستعادتها في غير موضوع من الأحداث، إضافة إلى محاولة تسيير الأحداث والكشف عن ملامح الشخصيات والانتصار إلى بعض الآراء دون بعضها.

إذن لقد عمل السجن كونه فضاءَ الكَبْت، والأَسْر، والمَنع على استمرار الأحداث واتساعها. لقد أدّت عملية البحث التي أجراها روبرت عن أسرة الموريسكي إلى ظهور أحداث جديدة انكشفت مع الأحداث؛ منها أنّ روبرت نفسه لم يكن إنجليزيا، هذا ما كشفته حواراته في غير موضع مع الشخصيات الأخرى. لقد مثّلت الفضاءات المغلقة هنا (المكاتب والأديرة والمنازل) مجمع هذه الحوارات والكشف من خلالها عن أسرار كانت تخص روبرت، فروبرت لم يكن إنجليزيا ويوسف الموريسكي الذي كان معه في السجن كان والده، وأسرة يوسف هي أسرة روبرت الحقيقية، فنجمة الحجرية والدته، وهند خالته.

لقد مثّلت الفضاءات المغلقة مكان الالتقاء أو لم شمل الأسرة؛ فقد التقى روبرت بوالده الموريسكي في السجن دون أن يعلم بالعلاقة بينهما، ثم التمّ شمله بخالته هند في منزلها بحلب بعد رحلة طويلة للوصول إليها طاف فيها بين بلدان عدة، والتقى بأشخاص كثر. والتمّ شمل روبرت بوالده الموريسكي على ظهر السفينة التي هرّبته من إسبانيا إلى إيطاليا ثم إلى حلب.

إنّ فضاء السجن يُمثّل في الرواية منطلق الحكي، ويمثّل الولادة السردية للشخصيات وبناءها فهو الذي فتح الآفاق أمام روبرت إلى عمليات البحث والكشف، نجد روبرت يعبّر عن قيمة السجن قائلا: «الشيء الذي لم أخبركَ به عزيزي سيراج؛ عندما جئت لاستلامي من السجن هو أني ولدت من جديد في ذلك السجن. لن يكون لهذا الحب أي معنى فيما لو توقّفت هنا. سرّ الموريسكي هو ما يعطي لهذا الحب قيمة». لذا كما بدأت الأحداث في الانطلاق من فضاء السجن، فإنها تعود إليه مرة أخرى لتبدأ منه أحداث جديدة في التشكل قائمة على حرية الإنسان ومواجهته للظلم.لذا لا يخفي الكاتب أن يكون سرّ الموريسكي هو في أساسه قضية هُوية وانتماء للشعوب على هذه الأرض، إنها فكرة قائمة على رفض التهميش، وعلى احترام الحقوق ومساواتها والعدل بين الشعوب واحترام حرية الآخر في التعبير عن معتقده، لذا يعبّر روبرت عن ذلك قائلا في حواره مع ياكب: «ولكن هل تعرف يا سيدي ماذا يعني أن أكون من المور؟ هذا آخر ما يمكن أن أطلبه. إنهم شعب بلا أرض؛ بلا وطن. يعني أنهم بلا هوية ولا انتماء. لا يعرفون؛ أهم أفارقة أم أوروبيون؟ أهم بربر أم قوط وغاليون؟ أهم عرب أم إسبان؟ أهم مسلمون أم مسيحيون؟ إنهم شعب ممزّق؛ محطّم؛ سُرق منه حاضره؛ وبالتالي مستقبله. كيف سيعيش من لا يستطيع أن يورّث وطنا لأطفاله؟! لا أريد أن أكون منهم. لا أريد».