المتأسلمون الجُدد

10 يناير 2023
10 يناير 2023

كلمة «المتأسلمون» كلمة مستحدثة؛ ولذلك فإن معاجم اللغة المطبوعة ونظائرها الإلكترونية سوف ترفضها باعتبارها كلمة طارئة (بل سيرفضها بعض المتحجرين ويشككون في نوايا مستخدميها ويتطاولون عليهم بلغة لا عِلم فيها). ولكن معاجم اللغة تظل عتيقة، ما لم تواكب التطور الذي يحدث في اللغة باعتبارها كائنا حيّا؛ ولذلك فإن هذه الكلمة تُعد صحيحة حينما ننظر إليها باعتبارها كلمة مشتقة تعبر عن ظاهرة موجودة بالفعل في حياتنا الدينية والاجتماعية. والحقيقة أن الظاهرة نفسها ليست بالجديدة في العالم الإسلامي، وإنما هي قديمة، ولكنها تتخذ أشكالا متنوعة ومتجددة باستمرار بحسب أحوال كل عصر. فما المقصود بالمتأسلمين، وعلى أي نحو يبدون في حياتنا الراهنة؟

المتأسلمون هم الذين يتخذون الإسلام دينا، ولكنهم في حقيقة الأمر لا يؤمنون بروح الدين وجوهره، وإنما يكتفون بالالتزام بطقوسه وشعائره في سلوكهم. وهؤلاء ينطبق عليهم وصف المولى عز وجل بقوله: «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإسلام في قلوبكم» (الحجرات 14). مثل هؤلاء موجودون في كل عصر؛ ولذلك أصبحنا نرى في عصرنا الراهن أناسا يحرصون على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وعلى الحج والعُمرة، ولكنهم يرتكبون الموبقات من الغش والكذب والإيذاء والرشوة وغير ذلك، ولسان حالهم يقول: «من الصلاة إلى الصلاة، ومن رمضانَ إلى رمضان، ومن العُمرة إلى العُمرة، كفارة لما بينهما»، وهكذا يبترون حديث الرسول الكريم، ويجيزون لأنفسهم ارتكاب الموبقات فيما بين أداء هذه الشعائر.

ومن صنوف المتأسلمين الجُدد أولئك الذين يتخذون موقفا معاديا من الفن والعلم باسم الدين. أما مَنْ يتخذون موقفا عدائيا من الفن، فيعتقدون أن الإسلام يحرم الفنون، ومن المؤسف أن عداء هؤلاء للفن قد تجاوز حد الاعتقاد بالتحريم إلى حد التجريم. تنامى هذا العداء في أواخر القرن الفائت حتى أفرز لنا جماعات سلفية أفتى زعيم إحداها بإهدار دم الأديب العظيم نجيب محفوظ بعد صدور روايته «أولاد حارتنا» (التي وصفها زعيم آخر فيما بعد بأنها «رواية إجرامية»!)، وهذا ما أدى إلى قيام أحد الموتورين من أتباع هذه الجماعة بالشروع في قتل نجيب محفوظ. أمثال هؤلاء يعيشون بيننا، وهم إن لم يرتكبوا جرائم القتل، فإنهم يجرِّمون كل فن أو على الأقل يحرِّمونه؛ في حين أنهم لا يعرفون شيئا عن حقيقة الفن، ولم يحرك الجمال يوما مشاعرهم، ولم يسمعوا قول الإمام الغزالي (في إحياء علوم الدين): من لم يطرب للربيع وأزهاره وللعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج، ليس له من علاج، بل لم يطربهم يوما سماع القرآن نفسه، بما ينطوي عليه من جماليات التصوير المُعجِز، حتى على مستوى صوتيات اللغة ذاتها. وأما المتأسلمون ممن يعادون العلم، فهم كثر أيضا: ترى هؤلاء يعادون روح العلم باعتباره نتاجا للإنجاز البشري وفقا لمناهج العلم وطرائقه في البحث، وذلك حينما يعتقدون في قضايا من قبيل: الإعجاز العلمي والإعجاز الحسابي في القرآن الكريم، وهو اعتقاد بالغ الخطورة لأنه يسيء إلى القرآن الكريم نفسه حينما يصوِّرونه باعتباره كتابا في العلم. وخطورة هذا الاعتقاد تكمن في تضليل الوعي الديني والعلمي في الوقت ذاته: ذلك أننا لا يمكن أن نستخرج من كتاب الله نظريات في العلم، لأن كلام الله مطلق ثابت، ونظريات العلم متغيرة على الدوام، وكل ما يمكن أن نجده هنا في كتاب الله هو دعوة إلى العلم وإشارات ربانية موحية عن طبيعة العالم والكون. مثل هذا الاعتقاد هو دعوة ضمنية للكف عن الإنجاز البشري في العلم، ما دام أن القرآن قد حوى العلم، وليس هذا حال الدين الإسلامي، ولا يمكن أن يكون حال أي دين. وأود أن أضيف إلى ما تقدم أن الذين يعادون روح العلم هم في الأغلب يعادون أيضا روح الفن!

هؤلاء موجودون في عصرنا في كل مكان، وتزايد وجودهم يشكل خطرا على نسيج المجتمع ذاته؛ لأنه يعبر عن خلل في الوعي الديني نفسه، بل عن حالة من الفصام في السلوك وأسلوب العيش. ولكن الأخطر من هؤلاء هم أولئك الذين يبلغ الفصام لديهم حالة عدوانية متطرفة. ومن هؤلاء تلك الحركات المتأسلمة من قبيل: القاعدة وداعش وسائر الحركات السلفية والجهادية التي ترفع السلاح ضد غيرهم من المسلمين، وتمارس القتل والعدوان باسم الدين، وهي الجماعات التي أشرنا إليها في مقالنا بعنوان «إسلام ضد الإسلام».

صحيح أن هذه الحركات «المتأسلمة» المعادية للإسلام ذاته (رغم أنها ترفع رايته في كل مكان بالمعنى الحرفي) هي حركات ساهمت أجهزة المخابرات الغربية في صنعها ودعمها. ولكن التركيز على هذا التفسير يصبح نوعًا من التبرير لحالة تردي الوعي الديني في حياتنا، لأنه يريد أن يكتفي بإلقاء اللوم على الآخرين ويجعلنا ننظر إلى أنفسنا باعتبارنا مجرد ضحايا للشيطان، وننسى أو نتناسى أن الشيطان (بالمعنى الديني الحرفي وبالمعنى المجازي كما يتبدى في عالمنا الواقعي) يجد دائما سبيله حينما يجد نقاطا من الضعف في نفوسنا وعالَمنا يمكن اختراقها، أعني: حينما يجد منطقة هشة يمكن استغلالها وتوظيفها لتأجيج الصراع والعنف والشر، وبذلك تتاح له القدرة على الاختراق والنفاذ إلينا. ما أود قوله إن العلة أو مناط الضعف والهشاشة يكمن في الوعي بوجه عام، وفي الوعي الديني بوجه خاص، أعني: أن العلة تكمن في وعي كثير من المسلمين أنفسهم.