من أجل تقرير متوازن لحرية الصحافة

10 يناير 2023
10 يناير 2023

تعكف نقابات وجمعيات الصحافة في العالم هذه الأيام على إعداد تقاريرها السنوية حول أوضاع حرية الصحافة في الدول التي تمثل فيها الصحفيين؛ تمهيدا لرفعها إلى الاتحادات الإقليمية والدولية المعنية بشؤون الصحافة والصحفيين إلى جانب المنظمات الحقوقية العالمية مثل منظمة مراسلون بلا حدود، ومنظمة بيت الحرية «فريدوم هاوس»، ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان المعروفة باسم «هيومن رايتس واتش»، التي تهتم جميعها بإصدار تقارير سنوية عن حالة حرية الصحافة في العالم يتم إعلانها في الثالث من مايو من كل عام بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة.

تحاول الدول المتقدمة منها والنامية أن تؤكد احترامها لحريات الرأي والتعبير والصحافة، والحصول على مواقع متقدمة في سلم الحرية؛ لتحقيق مزيد من الانفتاح على العالم، وجذب السياحة والاستثمار الأجنبي، والابتعاد عن المراكز الأخيرة التي قد تؤدي إلى الإقلال من شأنها في العالم وحرمانها من المساعدات العالمية سواء في مجال تطوير البنية التحتية الإعلامية أو في غيرها من المجالات.

ولأن العالم قرية صغيرة لم يعد بالإمكان إخفاء شيء به خاصة إذا تعلق الأمر بالصحافة والإعلام، فأنه من صالح نقابات وجمعيات الصحفيين في العالم العربي أن تعيد التفكير في التقارير شبه المعادة التي تقوم بإعدادها كل سنة، ومع ذلك يشهد ترتيب الدول العربية تراجعا في التقارير الدولية. وعلى سبيل المثال يشير تقرير مراسلون بلا حدود للعام 2021 إلى تراجع تونس إلى المرتبة 73، وهي الدولة العربية الأولى في حرية الصحافة، تليها الكويت في المرتبة 74، ثم لبنان في المرتبة 107. وفي المراتب الوسطى تأتي قطر (128)، والأردن (129)، والإمارات (131)، وفلسطين (132)، وعُمان (133)، والمغرب (136)، والجزائر (146)، أما في المراتب الأخيرة عالميا فتأتي السودان (159)، والصومال (161)، والعراق (163)، وليبيا 65)، ومصر (166)، والبحرين (168)، واليمن (169)، والسعودية (170) وسوريا (173).

في تقديري فإن هذا التراجع لا يعود فقط إلى المعايير التي تطبقها المنظمات العالمية المعنية بحرية الصحافة، بقدر ما يتعلق بالتقارير الرسمية التي تصدر عن جمعيات ونقابات الصحافة في الدول العربية، هذه المعايير تشير إلى تقدم حرية الصحافة في غالبية الدول العربية بدرجة تجعل بعضها يتقدم إلى قائمة المائة دولة الأولى مثل تونس والكويت، إذ يتوقف سجل كل دولة في تقرير مراسلون بلا حدود على سبيل المثال على خمسة مؤشرات سياقية، تساعد على فهم مستوى حرية الصحافة في الدولة بكل تجلياتها وتعقيداتها، وهي السياق السياسي، والسياق القانوني، والسياق الاقتصادي، والسياق الاجتماعي والثقافي، ثم سياق سلامة وأمن الصحفيين. وعلى صعيد السياق السياسي فان حكومات عربية عديدة توفر درجة كبيرة من الدعم والاحترام لاستقلالية وسائل الإعلام في مواجهة الضغوط السياسية التي تمارسها المؤسسات الحاكمة أو الصادرة عن بقية الفاعلين السياسيين في المجتمع، كما تحظى وسائل الإعلام بدعم واضح في دول أخرى للقيام بدورها في مساءلة السياسيين والحكومة بما يخدم الصالح العام.

وعلى صعيد السياق القانوني فقد شهدت السنوات الأخيرة تحسنا واضحا في مستوى حرية الصحفيين ووسائل الإعلام في العمل دون رقابة أو عقوبات قانونية أو قيود مفرطة على حرية التعبير في عدد من الدول العربية، وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي فقد زالت اغلب القيود الاجتماعية التي يمكن أن تؤدي إلى التشهير والاعتداء على وسائل الإعلام والصحفيين على أساس النوع أو الطبقة أو الأصل العرقي أو الدين، وتخلت دول عربية كبيرة عن القيود الثقافية، بما في ذلك الضغط على الصحفيين لعدم مساءلة دوائر معينة من السلطة أو لعدم التطرق لقضايا معينة لتجنب أي تعارض مع ثقافة الدولة.

وباستثناء دول عربية قليلة العدد تواجه معضلات داخلية كثيرة تبدو سلامة وأمن الصحفيين في غالبية الدول العربية مضمونة إلى حد كبير، ونادرا ما يتعرض الصحفيون العرب إلى انتهاكات ينتج عنها الضرر الجسدي مثل القتل العمد، والعنف، والاختطاف، أو ضرر نفسي نتيجة التعرض للترهيب أو للإكراه أو للمضايقات أو للتجسس أو للإفصاح عن معلومات شخصية أو للإهانة أو لخطاب الكراهية أو لتشويه السمعة أمام الرأي العام أو لتهديدات أخرى في حق الصحفيين أو أقاربهم، أو أضرار على المستوى المهني، مثل فقدان الوظيفة لأسباب مهنية أو سياسية، أو مصادرة المعدات أو نهب المنشآت الإعلامية.

لكي تصل هذه الصورة إلى العالم والمنظمات المعنية بحرية الصحافة يجب أن تكون تقارير جمعيات ونقابات الصحفيين العربية متوازنة، تجمع بين مؤشرات التقدم والاعتراف بنواحي القصور، والابتعاد عن اللغة الدعائية للنظام السياسي. ففي مقابل أن نقول إن هناك ندرة فعلية في الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون العرب، علينا أن نقر بالقصور التشريعي في مجال الصحافة والإعلام، المواكب للعصر ودعوة المؤسسات التشريعية والحكومات إلى معالجة هذا القصور. وعلى سبيل المثال ما زالت الأطر القانونية في غالبية الدول العربية تفتقر إلى قوانين لحرية المعلومات تمنح الصحفيين والمواطنين بوجه عام الحق في الوصول إلى المعلومات الحكومية، وتحد من سلطات المؤسسات الحكومية في حجب المعلومات، ويرتبط بذلك ضرورة الإقرار بوجود قيود على حرية التعبير والصحافة في القوانين الحالية، وخضوع الصحافة ووسائل الإعلام في الدول العربية إلى ترسانة من القوانين لا تقتصر على قوانين الصحافة والنشر والإعلام، وتمتد إلى قوانين الجزاء (العقوبات) وجرائم تقنية المعلومات، وقانون الشركات وغيرها.

ومن المهم الإشارة في تقاريرنا إلى أبرز ما تعاني منه الصحافة في كل الدول العربية، وهو الباب الخاص بمحظورات النشر الذي يشمل قائمة طويلة من المحظورات التي تجاوزها الزمن ولا تتوافق مع عصر الإعلام الرقمي بأي حال، وينطبق نفس الأمر على ما تزخر به قوانين الصحافة العربية من قيود على إنشاء الصحف الورقية التي امتدت إلى الصحف الإلكترونية، وإنشاء محطات الإذاعة والتلفزيون سواء التقليدية التي تبث عبر الأثير وعبر الأقمار الاصطناعية أو الجديدة التي يتم بثها على الإنترنت.

إذا كنا نريد تغيير نظرة المؤسسات الدولية لجمعيات ونقابات الصحفيين في الدول العربية، وبالتالي الثقة في تقاريرها والاعتماد عليها في تصنيف الدول في قائمة حرية الصحافة، فأن التقارير التي تصدرها الجمعيات والنقابات يجب أن تتغير لتعكس رؤيتها كمنظمات مجتمع مدني مستقلة وليس كمؤسسات حكومية، ولتحقيق ذلك يجب أن تكون لغة التقارير العربية واضحة ومحددة، وتتضمن توصيات للجهات المسؤولة، مثل: تحديث واستكمال المنظومة القانونية الخاصة بالتشريعات الإعلامية لاسيما قوانين الصحافة والمطبوعات والنشر، ومراجعة كافة التشريعات المتعلقة بالعمل الصحفي، مع ضرورة الاهتمام بالصحف المطبوعة، وإيجاد الحلول؛ لضمان استمرارها وعدم المس بالأمن الوظيفي للعاملين فيها، وتعزيز استقلالية المؤسسات الإعلامية العامة والخاصة في قراراتها الإدارية والتحريرية، وإصدار قانون عصري لحرية المعلومات يقر حق الصحفيين في الحصول على المعلومات وفق آليات جديدة، بالإضافة إلي دعم الإذاعات ومحطات التلفزيون المجتمعية وتشجيع إنشائها، ودعم الصحف الإلكترونية، وإزالة العقوبات السالبة للحرية في التشريعات المختلفة، وتعزيز المهنية الإعلامية.