الموسيقى والوعي الجمالي
منذ أسبوع ناقشت رسالة دكتوراة رائعة للدكتور كريم الصياد، وهي رسالته الثانية للدكتوراة بعد رسالته الأولى التي حصل عليها من ألمانيا في الفقه الإسلامي تحت إشراف الصديقة الراحلة كلاوديا بِكمان! أصر كريم على أن تكون رسالته الثانية تحت إشرافي في علم الجمال، خاصة في فلسفة الموسيقى، وتحديدًا في أُنطولوجيا الموسيقى. والمدهش هنا أمران: أولهما أننا لم نعد نجد في زماننا هذا مَنْ يسعى إلى الحصول على أكثر من دكتوراة لمجرد إشباع فضوله العلمي والمعرفي، وثانيهما أن الباحث ينتقل من البحث في الفقه الإسلامي إلى البحث في الموسيقى التي طالما كانت موضع استهجان، بل تحريم، في الفكر الديني السلفي المتشدد، حتى إن أحد أعلام هذا الفكر قد ذهب إلى القول بأن مَنْ يستمع إلى الموسيقى سوف يُصَّب في أذنيه الحديد المصهور يوم القيامة! ولكننا في مقابل أعداء الموسيقى نجد العظام من أساتذة الفقه الإسلامي المعاصر يحتفون بالموسيقى وبفن الغِنَاء؛ ومن هؤلاء -على سبيل المثال- الشيخ الجليل مصطفى عبد الرازق الذي كان أول رئيس لقسم الفلسفة الذي أنتمي إليه؛ فلا ينبغي أن ننسى أن هذا الشيخ الجليل كان من الداعمين لسيدة الغناء العربي في بداياتها الأولى: أم كلثوم. ولا ينبغي أن ننسى أيضًا أن بعضًا من كبار المقرئين المصريين، كانت بيوتهم تضم آلة البيانو. وهكذا فإن إشرافي على الرسالة المذكورة كان مناسبة لتأملي في فلسفة الموسيقى، وفي الموسيقى ذاتها التي تستولي على مشاعرنا وعقولنا. طالما تأملت هذا الأمر من حين إلى آخر، فتساءلت: لمَ الموسيقى؟ ما ضرورة الموسيقى؟
لازمت الموسيقى الإنسان منذ أن بدأ وعيه يتطور، ولكن الوعي الموسيقي لم يبلغ ذروة تطوره إلا منذ نشأة الموسيقى الأوركسترالية الخالصة في أوروبا، خاصةً في ألمانيا على يد باخ وموتسارت وبيتهوفن. الموسيقى الخالصة اختراع غربي تألق عبر بضعة قرون، بدءًا من القرن الثامن عشر؛ وليس معنى ذلك أن الموسيقى الخالصة لم يعد لها وجود في عالمنا الراهن، وإنما المعنى المقصود هو أن إبداعات الموسيقى الخالصة لم تعد موجودة بنفس القدر من الأهمية والكثافة التي كانت عليها في القرون السالفة. فما معنى الموسيقى الخالصة، وما ضرورتها في عالمنا الإنساني الراهن؟
الموسيقى الخالصة pure music هي الموسيقى التي لا تستعين بأي وسائط فنية أخرى، فوسيطها الفني هو الصوت الموسيقي الذي يصدر عن الآلات الموسيقية وعن الصوت البشري؛ ولذلك فإنها تسمى أيضًا موسيقى الآلات instrumental music. ومعنى هذا أن الموسيقى الخالصة لا تستعين -على سبيل المثال- بالكلمة الشعرية كما في الأغنية، أو بالنص الأوبرالي libretto كما في الأوبرا. ومن أشكال هذه الموسيقى الخالصة: الموسيقى الخفيفة، والسوناتا، والكونشرتو، والسيمفونية. السيمفونية هي أعلى أشكال الموسيقى وأكثرها تعقيدًا من حيث البناء؛ ولذلك فإن المتلقي لا يمكن أن يستسيغ السيمفونية إلا بعد أن يتدرب طويلًا على سماع كل أشكال الموسيقى الأكثر بساطة في البناء، إلى أن تألف أذنه في النهاية سماع السيمفونية. فمن السهل تذوق الأغنية؛ لأن هناك كلمات تتحدث عن موضوع ما ويصاحبها لحن ملائم لها: لحن يتغنى بهذه الكلمات. ومثل هذا يمكن أن يُقال عن فن الأوبرا: فهناك كلمات وأحداث تصور موضوع ما، ويتم تأليف الموسيقى من أجل هذا. أما الموسيقى الخالصة، فإنها لا تصور موضوعًا محددًا، وإنما تصور الشعور من دون موضوعه: فهي تصور -على سبيل المثال- مشاعر الفرح والحزن والألم بدون أي موضوع محدَّد للفرح أو الحزن أو الألم، كما لو كانت الموسيقى بذلك بمثابة تجريد للشعور.
ولأن الموسيقى هي أكثر أشكال الفن قدرة على التأثير في الشعور والتسامي به؛ فإنها تُعد أيضًا أسمى أشكال الوعي الجمالي. ولهذا أيضًا يمكن القول بأن من يمارس الموسيقى أو يحسن تذوقها على الأقل، لا يمكن أن يكون شخصًا متبلد الشعور والوجدان أو متطرفًا متشددًا في مسلكه. أتذكر هنا حالة المطرب اللبناني المشهور الذي كان منتميًّا لتنظيم ديني متطرف، وكان يحمل السلاح ويطلق الرصاص، ولكنه بعد أن تعلم الموسيقى لم يعد قادرًا على قتل صَرصُور.
ولذلك فقد أُنشِئت دُور الأوبرا ومسارح الموسيقى الكبرى في الدول التي تُعلي من شأن الموسيقى، بحيث تكون مسارحها الكبرى مهيأة لإقامة العروض الموسيقية الأوركسترالية بجانب العروض الأوبرالية والغنائية. ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا حرص السلطان قابوس -طيب الله ثراه- على إنشاء الأوبرا العمانية التي تراعي المواصفات الفنية التراثية والحديثة، مع الحفاظ في الوقت ذاته على شخصية المعمار العُماني. ولكن دُور الأوبرا لا تعد كافية وحدها لتأسيس الوعي الجمالي الموسيقي؛ لأن زوار هذه الدُور يكونون غالبًا من الطبقة المخملية في المجتمع، على الأقل في المجتمعات والدول التي لم ينضج فيها الوعي الجمالي. فبالإضافة إلى ذلك، لا بد من حضور الموسيقى في التعليم بالمدارس كجزء أساسي من تربية الذوق أو الوعي الجمالي. وأذكر في هذا الصدد أنني في أثناء المرحلة الثانوية سنة 1970 بمدرسة الخديوية الثانوية التي كانت مدرسة حكومية مرموقة آنذاك أذكر أنني مع زملائي كنا ندرس الموسيقى على يد الأستاذ مجدي بولس عازف التشيللو البارز في فرقة أم كلثوم! لم يَعُد هذا الاحتفاء بالموسيقى موجودًا في زماننا هذا، ولذلك أصبحنا نجد أجيالًا تستسيغ سماع ما يُسمى بأغاني المهرجانات، ولا تستسيغ سماع أية أغنية رائعة لأساطين الغناء العربي فيما مضى، فما بالك بسماع الموسيقى الخالصة!
