تأملات في أحوال كرة القدم

22 نوفمبر 2022
22 نوفمبر 2022

لا صوت يعلو الآن فوق صوت معارك مباريات كأس العالم الدائرة رحاها في دولة قطر التي نظمت ساحاتها وأعدت لتنظيمها باقتدار. يشتغل كثير من الناس عبر العالم معارك روسيا وأوكرانيا التي تؤثر في حياتهم ومعاشهم، في حين أن كثيرًا أيضًا منهم لا يعبؤون بذلك، وسرعان ما يألفون أحوال الحرب وتداعياتها منتظرين انفراجة أو نهاية لها. ولكن اهتمام الناس وشغفهم بمباريات كرة القدم لا يخبو أبدًا، وهو يتصاعد في اتساعه بحسب أهمية المباريات إلى أن يبلغ ذروته في بطولة كأس العالم، حيث تتجمع شعوب العالم لمتابعة فرق بلدانها في مواجهة فرق البلدان الأخرى؛ وحتى حينما يكون فريق بلد ما غير مشارك في هذه البطولة، نجد أن جماهير هذا البلد تحرص على مشاهدة تلك المباريات بالاهتمام والشغف نفسيهما. وكل هذا وغيره لا بد أن يستدعي التساؤل والتأمل الفلسفي في أحوال كرة القدم وشغف الناس واهتمامهم بها: ماذا وراء هذه الكرة التي تسمى الساحرة المستديرة؟ وماذا تعني هذه الكرة؟ ولست بأول من يستدعي السؤال عن فلسفة كرة القدم؛ فهناك تأملات فلسفية سابقة وإن كانت قليلة، منها على سبيل المثال: كتاب «فلسفة كرة القدم» من تأليف ستيفن مامفورد أستاذ الميتافيزيقا بجامعة دورهام، فضلًا عن بضع مقالات رصينة. وفيما يلي سوف أوجز رؤيتي في هذا الموضوع، بناءً على تأملاتي الخاصة وعلى ما استفدت من تأملات غيري:

- أول عهدي بشغف كرة القدم كان في مرحلة الصبا والشباب: كنت أشجع فريق الزمالك المصري في مواجهة غريمه التقليدي النادي الأهلي. كنت أنضم إلى جموع المشجعين المنتمين إلى النادي نفسه لنشاهد مباريات الناديين عبر التليفزيون على أحد المقاهي، وكنا نشجع بحماس وتوتر شديد مع كل حركة للكرة تجري على أقدام لاعب من فريقنا الحبيب، وكان الحماس يبلغ مبلغه حتى يصل إلى العراك أحيانًا بين بعض مشجعي الفريقين الذين يجلسون متجاورين. استمر حالي على هذا النحو إلى أن اقتربت من مشارف الثلاثين، ومنذ ذلك الحين بدأ يفتر حماسي وشغفي وتوتري، فلا أحرص على مشاهدة مباريات كرة القدم. بدأت أتأمل الأمر طويلًا، وانتهيت إلى أن حالة التحزب إلى فريق بلد ما ضد فريق آخر ينتمي إلى البلد نفسه، هي حالة من المشاعر الفجة غير الناضجة، تستدعي ميولًا بدائية مفطورة إلى تحزب الذات لذاتها ولمن يدعمها في مواجهة الآخر المختلف بوصفه خصمًا أو عدوًا! بمرور الوقت أصبحت أعرف بوضوح أن كل هذا مرتبط بمدى نضج الوعي، وهذا النضج لا يتوافر لدى الجماهير العريضة من البشر. بنضج الوعي يرتقي الشعور والفهم والانفعالات؛ ولهذا أصبحت بالتدريج أتعجب من مسلك الجماهير في هذا الصدد، وهو المسلك الذي كنت منخرطًا فيه يومًا ما؛ ولذلك فإنني أصبحت لا أشجع سوى فريق بلدي أو فريق أي من البلدان العربية حينما يرتقي هذا الفريق إلى مستوى المشاركة في بطولات عالمية أو قارية، ربما بسب شعور بالهوية متأصل في النفس. أما إذا لم يبق هناك فريق عربي يواصل المشاركة، فإنني أشجع الفريق الذي أراه جديرًا بالفوز، في نوع من الهدوء النفسي الذي يتطلع إلى تحقيق العدالة الكروية.

- لا شك في أن لعبة كرة القدم هي اللعبة الجماهيرية الأولى في العالم. لماذا؟ هذا سؤال مشروع، ولعل هذا يكون مرتبطًا بسحرية هذا الكائن الكروي المصنوع الذي يجسد الشكل الكروي الذي اعتبره قدماء اليونان الشكل المثالي من بين كل الأشكال الهندسية: فهو يجسد فكرة الدوران في الكون التي تشمل دورات الأيام والشهور والسنين. وفضلًا عن ذلك، فإن الكرة- أو الشكل الكروي- تجسد أيضًا مفهوم العدالة والتساوي، حيث إن كل نقطة على السطح الكروي تقع على مسافة واحدة من المركز (وهذا يعني ضمنًا أن الكرة تتيح فُرصًا متساوية لكل اللاعبين لكي يستخدمونها بالشكل الأمثل، بناءً على المهارة والعلم والدراسة). وربما يقول قائل هنا: لكن الكرة ليست حكرًا على كرة القدم؛ فالكرة هي أداة لعديد من الألعاب، مثل: الكرة الطائرة وكرة التنس وكرة المضرب. ومكمن الخطأ في هذا التحفظ أنه يتصور مكانة الكرة في كرة القدم كغيرها من ألعاب الكرة: الكرة في التنس وكرة المضرب- على سبيل المثال- ضئيلة الحجم، ولا تلاصق حركاتها جسم اللاعب (كما في كرة القدم التي تتعلق بأقدام اللاعب ورأسه وصدره). كذلك فإن المساحة التي تتحرك فيها الكرة تكون ضئيلة بالقياس إلى ملاعب كرة القدم؛ وهذا من شأنه أن يقلل من المساحة الزمنية للاستثارة عبر الكر والفر بطول الملعب وعرضه.

- جماهير كرة القدم لا تختلف فحسب عن جماهير ألعاب الكرة الأخرى من حيث تفوقها العددي بصورة هائلة لا تقبل المقارنة، ولكنها تختلف عنها نوعيًّا أيضًا؛ ولهذا فإن كرة القدم هي اللعبة الجماهيرية الأولى، وعلى الأدق: اللعبة «الشعبوية» الأولى. ولنتأمل- على سبيل المثال- الجماهير المحدودة لكرة التنس، لنجد أن معظم هذا الجمهور الضئيل قوامه من المشاهير ووجوه المجتمع والطبقة العليا فيه، بل الطبقة المثقفة المهتمة بالرياضة. وحتى أسلوب تشجيع هذا النوع من الجمهور يكون متحررًا من حالات الهياج والاستثارة والتعصب والعنف التي نجدها في تشجيع جماهير كرة القدم. لكن شعبوية كرة القدم لا تعرف التمييز الطبقي: فهي لا تقتصر على طبقة معينة، وتشمل الفقراء والأغنياء والمثقفين والجهلاء على السواء.

المسألة المركزية التي أود التأكيد عليها في النهاية هو أن كل الظواهر المرتبطة بكرة القدم هي تعبير عن الاعتداد بالهوية، كما لو كانت الهوية الوطنية هي حالة غريزية مفطورة في النفس، مهما تعددت الأوطان التي يعيش فيها المرء عبر أزمنة مختلفة. وربما يؤكد هذا أن الهوية لا يمكن محوها من خلال كل الوسائط التي تهدف إلى تجاوز الهويات.