كأس العالم.. والزواج «الأسعد» بين الرياضة والإعلام
أبهرت قطر العالم مساء الأحد الفائت بحفل افتتاح كأس العالم لكرة القدم الذي تستضيفه، ولأول مرة دولة عربية وشرق أوسطية. ونجحت الدولة الخليجية الصاعدة بقوة في جمع مليارات البشر من جميع أنحاء العالم سواء لمشاهدة حفل الافتتاح أو لمتابعة المنافسات عبر الآلاف من القنوات التلفزيونية والمنصات الإعلامية الأخرى، التي توفر لها هذه المناسبة العالمية فرصا كبيرة لزيادة مشاهديها ومتابعيها وتحقيق الأرباح.
إن الاهتمام العالمي الكبير بمنافسات كأس العالم لكرة القدم في قطر، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أننا نعيش بالفعل في عالم مُشبع بالرياضة، وبالطبع لم يكن هذا ليتحقق دون التطور الهائل الذي شهدته الرياضة والمسابقات الرياضية العالمية من جانب، ووسائل الإعلام وتكنولوجيات البث والاستقبال من جانب آخر.
إن ما نشاهده من نقل حي مباشر لفعاليات المونديال العالمي على مختلف وسائل الإعلام من داخل الملاعب ومن شوارع وأسواق قطر وتجمعات الجماهير في الدول المختلفة، يجعلنا نعيد النظر في الوصف الذي يجسد العلاقة بين الإعلام والرياضة الذي يقال إنه شكل من أشكال الزواج السعيد النادر وجوده، واستبداله بوصف جديد ينظر إلى هذا الزواج بوصفه الزواج الأسعد في العالم، لأنه لا طلاق فيه، وتبدو فيه العلاقة بين الطرفين آمنة إلى حد كبير، ولا تنغصها قوانين المطبوعات والنشر، ولا ظروف الرقابة على المحتوى، ويحقق الطرفان من خلاله مكاسب عديدة.
صحيح أن الأمر لا يخلو أحيانا من نقاط التوتر والخلاف بين الطرفين خاصة على حقوق البث، ومحاولات استعراض القوة، إلا أنها تنتهي غالبا بالصلح والوصول إلى نقاط اتفاق وحلول وسط يدفع ثمنها المشاهد العادي في جميع أنحاء العالم.
وقبل شهر تقريبا من بدء منافسات كأس العالم الحالية، كتبت ورقة علمية بعنوان « الزواج السعيد بين الإعلام والرياضة.. نحو أجندة بحثية جديدة في العصر الرقمي»، ونُشرت بإحدى الدوريات العلمية المحكمة. أكدت من خلالها أن الرياضة والإعلام تزايد اعتماد كل منهما على الآخر في السنوات الأخيرة، فأصبحت الرياضة لا تستغني عن منصات الإعلام المختلفة للوصول إلى الجماهير، كما أصبح الإعلام لا يستغني عن الرياضة للوصول إلى الناس وتحقيق الأرباح.
هذا الاعتماد المتبادل بين الطرفين، أصبح مكثفا وباهظ التكلفة، التي تتمثل في نفقات الحصول على حقوق العرض التلفزيوني والرقمي للرياضة، مقابل قيام وسائل الإعلام بتقديم محتوى معين للمشاهدين، والواقع أن العلاقة بين الرياضة ووسائل الإعلام في المجتمع المعاصر أصبحت تتسم بالتكافل الشديد. وقد تأثرت تلك العلاقة بالتطورات الكبيرة التي شهدها الطرفان خلال القرن العشرين، إذ أصبحت الرياضة أكثر تنظيما وأكثر ربحية، وظهرت المنافسات العالمية والإقليمية والمحلية في جميع الألعاب الرياضية، وتزايدت حاجة الجمهور إلى وسائل الإعلام التي تتابع تلك المنافسات وتنقل أخبارها وتقدم نجومها. في الوقت نفسه شهدت وسائل الإعلام تطورات مهمة على صعيد الوسائل، إذ شهد القرن العشرون إضافة وسائل الإعلام الإلكترونية (الراديو والتلفزيون)، ثم شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية إلى الخريطة الإعلامية، التي استثمرت الرياضة كمحتوى إعلامي يربطها بالجمهور من جانب، ويوفر لها موارد مالية سواء عبر الإعلان أو عبر الاشتراكات وخدمات ادفع لتشاهد، من جانب آخر.
لقد برهن حفل افتتاح كأس العالم وحرص عدد من قادة العالم على التواجد فيه، ومصافحة القادة الذين كانوا على خلاف معهم، أن الرياضة وبالتالي الإعلام الرياضي أصبحا شكلا مقبولا ومتوافقا عليه من أشكال الصراع والتنافس غير العنيف، وغير العسكري بين الدول. وتطورت فكرة الرياضة باعتبارها - تمثيلا رمزيا - للحرب إلى درجة بعيدة، لدرجة أنها أصبحت تعتبر بديلا وظيفيا للحرب تعمل على نزع فتيل العدوان العسكري بين الدول بطريقة آمنة إلى حد بعيد.
وبالنسبة لقطر كدولة مستضيفة لهذا العرس العالمي فإن هذه المناسبة الرياضية النادرة تمثل مرآة للمجتمع القطري والعربي والإسلامي يرى فيها نفسه، كونها تعكس القيم الاجتماعية التي يمكن أن تمتد من القيم الفردية مثل الانضباط، والزهد، وضبط النفس، إلى القيم الجماعية مثل الروح الرياضية والعدل، والقيم الإنسانية مثل الإيمان بقيمة الجهد والإنتاجية، والمنافسة الشريفة.
لقد بدأ اهتمام وسائل الإعلام بالرياضة والمنافسات الرياضية في فترة مبكرة من ظهور هذه الوسائل. ويؤرخ لظهور التغطية الإعلامية الرياضية، وتحديدا الصحفية، بظهور المنافسات الرياضية الرسمية وشبه الرسمية في بعض دول العالم، وعلى رأسها بريطانيا التي بدأت على أراضيها المنافسات الرياضية الرسمية في القرن الثامن عشر، كتدوين للأشكال السابقة من اللعب الشعبي والثقافة البدنية ووسيلة لتعزيز الروح المهنية كجزء من نمو الترفيه الصناعي، حيث يدفع المتفرجون المال لمشاهدة المسابقات الرياضية في الأماكن المغلقة، والمشاركة في المراهنة على الرياضيين، والاستمتاع بتجربة اجتماعية شاملة تتضمن دعم فريق أو فرد ضد آخر. ومثلت صحيفة مورنينج هيرالد نموذجا للصحف حول العالم في هذا المجال عندما أسست لأول مرة في العالم قسما مستقلا لتغطية الأحداث الرياضية اليومية المحلية في عام 1817.
وقد بدأت وسائل الإعلام المطبوعة في تغطية الأحداث الرياضية كجزء من الحياة اليومية، كما روجت للأحداث الرياضية من خلال الإعلان والرعاية. وكانت هذه بداية علاقة تبادلية بين الرياضة ووسائل الإعلام. فقد أبلغت الصحف القراء بالأحداث الرياضية القادمة ووصفت وقائعها، بينما جذبت في الوقت نفسه القراء وعائدات الإعلانات من الصناعات الناشئة والراسخة، إذ سرعان ما أصبح واضحًا أن الرياضة يمكن أن تجذب الانتباه الشعبي، وتسهم في تسويق المنتج، كوسيلة فعالة لجذب الجماهير للتعرض للسلع، من قبل الرياضيين.
في المقابل، حصلت الرياضة على مكانة أعلى ووضوح أكبر. وتطورت الصحافة الرياضية إلى ما هو أبعد من مجرد تقديم النتائج والوصف الواقعي، وقدمت الصحف والمجلات العامة والمتخصصة ملايين الصفحات التي تغطي الشؤون الرياضية، وأصبح خطاب الرياضة يتغلغل في الحياة اليومية ليس فقط لهواة الرياضة، ولكن لكل متابعي وسائل الإعلام.
وظهرت الصحافة الرياضية المسموعة في صورة نشرات أخبار رياضية إذاعية بعد ظهور المحطات الإذاعية بفترة وجيزة، بالإضافة إلى البرامج الرياضية التي استفادت من الرياضيين وأتاحت الفرصة للجمهور للاستماع لهم. وقدم التلفزيون بعد ظهوره تمثيلًا سمعيًا بصريًا غير مسبوق للأحداث الرياضية، وزاد الإقبال على النقل التلفزيوني المباشر للمباريات والمنافسات الرياضية خاصة مع دخول التلفزيون لكل دول العالم تقريبا، وتحوله إلى البث الملون واستخدام الأقمار الاصطناعية في النقل الخارجي، بالإضافة إلى التحسن الواضح في وضوح الصور باستخدام تقنية «اتش دي»، ثم تقنية «فور كيه». وقد عزز كل ذلك من عولمة الرياضة.
وكان ظهور الشبكات التلفزيونية الرياضية في سبعينيات القرن الماضي ثورة في عالم الإعلام الرياضي، إذ استثمرت هذه الشبكات أموالا طائلة للحصول على حقوق البث المباشر للأحداث الرياضية المحلية والعالمية، وأصبحت تقدم للجمهور خدمات مدفوعة بالكامل، بالإضافة إلى بعض الخدمات المجانية المحدودة. ومن عائدات هذه الاشتراكات توافرت للمنظمات الرياضية المحلية والدولية والإقليمية التمويل اللازم لإقامة منافسات رياضية رفيعة المستوى. ومثلت الإنترنت والمواقع الإلكترونية وبعدها شبكات التواصل الاجتماعي إضافة مهمة للإعلام الرياضي وفتحت المجال أمام أصوات ومنصات جديدة، وقربت الرياضة من الناس، وهو ما أسهم في زيادة شغف الجمهور بالرياضة والمنافسات العالمية بالصورة التي نراها الآن في كأس العالم لكرة القدم في قطر.
