«تيك توك» ومحاولات تحسين النسل الافتراضي

18 أكتوبر 2022
18 أكتوبر 2022

نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية تقريرًا استقصائيًا موسعًا كان أقرب إلى البحث العلمي عن تطبيق مقاطع الفيديو الشخصية القصيرة الصيني المعروف «تيك توك»، شارك اثنا عشر صحفيا في إعداده وتحريره، بالإضافة إلى كاتبه «درو هارويل»، وهو مراسل الصحيفة المتخصص في تغطية شؤون الذكاء الاصطناعي والخوارزميات. التقرير الذي يجب أن يقرأه المستخدمون وصناع القرار الإعلامي والتقني العرب، يحمل عنوانًا ذا دلالة واضحة، وهو «صعود «تيك توك»، وكيف أكل شبكة الإنترنت، ويتضمن معلومات مهمة وتفصيلية عن تأثيراته على الشباب والمراهقين في العالم كله، بعد أن تخطى عدد مستخدميه حاجز المليار مستخدم، وتفوق على منصات التواصل الاجتماعي الشهيرة مثل «فيسبوك» و«تويتر». فخلال خمس سنوات فقط من إطلاقه، أصبح التطبيق الذي كان ينظر إليه في البداية على أنه بدعة سخيفة لبث فيديوهات شخصية راقصة، أصبح واحدًا من أبرز التطبيقات العملاقة التي تثير جدلًا عالميًا، ويعبّر عن صراع تقني واتصالي للسيطرة على عقول البشر في جميع أنحاء العالم.وبصرف النظر عن التأثيرات السلبية للاستخدام الكثيف لهذا التطبيق الذي يستهلك وقت المستخدم، ربما دون أن يشعر بحثًا عن متابعين، وزيادة عدد المشاهدات للقطات الفيديو القصيرة التي يرفعها عليه، فإن انتشاره بهذه السرعة في العالم يثير قلق العديد من الأطراف، من بينها شركات التقنية الأمريكية العملاقة، والدول والحكومات لسهولة إدمان استخدامه لساعات طويلة، وتغييره لأنماط السلوك الإنساني المتعارف عليها، والثقافة الإنسانية بوجه عام، وتحطيم بعض هذه الأنماط كالنزوع البشري الطبيعي للحفاظ على الخصوصية الفردية. ولا يتوقف الأمر عند حد مشاكل الخصوصية التي يثيرها التطبيق، ولكن يتعداه إلى مشاكل أكبر مثل إدمان استخدام التطبيق، وتشجيع المراهقين على نشر محتوى إباحي، وهي مخاوف دفعت التطبيق نفسه إلى إدخال خاصية تشجع المستخدم على التوقف المؤقت، والحصول على استراحة كل (90) دقيقة، كما دفعت بعض الحكومات إلى ملاحقة بعض المستخدمين قضائيًا بتهمة انتهاك الآداب العامة بسبب مقاطع فيديو قاموا ببثها عبر التطبيق، مثلما حدث في يوليو 2020 عندما أصدرت محكمة مصرية حكمًا بسجن خمس نساء لمدة عامين بسبب مقاطع فيديو إباحية. القلق المحيط بالتيك توك يعود في المقام الأول إلى أن موقع التطبيق على شبكة الويب تجاوز العام الماضي وللمرة الأولى في مرات الزيارة -وفقًا لتقديرات شركات تتبع الإنترنت الشهيرة- محرك البحث الشهير «جوجل»، ووصوله إلى رقم المليار مستخدم، وهو ما لم يتحقق لأي تطبيق تواصل اجتماعي آخر حتى الآن. وعلى المستوى الأمريكي بلغ عدد مستخدميه أكثر من مائة مليون مستخدم، أي ثلث عدد سكان أمريكا، ويتابع المستخدم الأمريكي التطبيق لنحو (80) دقيقة في اليوم الواحد في المتوسط، وهو يفوق كثيرًا متوسط الوقت الذي يقضيه على تطبيقي «فيسبوك» و«انستجرام» معًا.ملكية «تيك توك» التي تعود إلى شركة « بايت دانس» العملاقة للتكنولوجيا ومقرها العاصمة الصينية بكين، جعلت التطبيق منبوذًا من جانب العديد من الحكومات في العالم، وعلى رأسها حكومة الولايات المتحدة الأمريكي، ففي يوليو 2020 وعد الرئيس السابق دونالد ترامب بحظر التطبيق في الولايات المتحدة، وذلك في إطار موقفه من الصين وشركات التقنية التابعة لها بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي.

وحظرت الإدارات العليا في الحكومة الأمريكية تنزيل التطبيق على الهواتف التي توزعها على موظفيها، وحثت وزارة الدفاع «البنتاجون» موظفيها على إلغاء تثبيت التطبيق على أجهزتهم بدعوى المخاوف الأمنية، ورغم أن ترامب أصدر أمرًا تنفيذيًا يجبر الشركة على بيع حصتها في التطبيق لشركة أمريكية، فإن القضاء الأمريكي حكم لصالح التطبيق أكثر من مرة، ومنع الحكومة من فرض أي قيود على التطبيق داخل الولايات المتحدة.

وعلى نهج الحكومة الأمريكية سارت حكومات أخرى بالعالم في طريق الحظر المؤقت أو الدائم للتطبيق المثير للجدل، ولكن لأسباب سياسية أو أخلاقية في الغالب.

ففي الهند تم حظر التطبيق تمامًا في نهاية يونيو من العام قبل الماضي إلى جانب أكثر من مائتي تطبيق صيني أخر بدعوى أنها «تمس بسيادة الهند، وتهدد أمن الدولة والنظام العام»، وقامت دول أخرى ولفترات محددة، مثل إندونيسيا، وبنجلاديش، وباكستان بحظر التطبيق على أراضيها بسبب مقاطع الفيديو غير الأخلاقية التي يتم نشرها عليه. وفي فبراير الماضي قامت الحكومة الروسية بوضع قيود على الوصول للتطبيق؛ خشية نشر دعاية غربية مناهضة للعملية العسكرية التي تقوم بها في أوكرانيا، ووضعت كل من أرمينيا وأذربيجان قيودًا على استخدام التطبيق خلال حربهما العام قبل الماضي، فيما تحظر سوريا التطبيق تماما.وفي تقديري أن «الفوبيا» التي أصابت بعض دول العالم نتيجة الانتشار السريع للتطبيق الصيني يعود في الأساس إلى كونه يتبع أول شركة تقنية صينية عملاقة يصل منتجها إلى نحو مليار مستخدم خارج الصين، وهو ما قد يمكٌن الحكومة الصينية من مراقبة أعداد كبيرة من البشر، ونشر دعايتها السياسية من خلال التطبيقات التي تقدمها. ويمكن جمع المخاوف العالمية من «التيك توك» في ثلاثة شكوك رئيسية، الأول، قد يستخدم في التجسس وجمع البيانات لحساب الحكومة في الصين أو لحساب أطراف ثالثة غير معلن عنه، ولعل ما يزيد من هذه المخاوف أن التطبيق يمكنه التجسس على المستخدم، وجمع معلومات عنه بمجرد أن يقوم بتنزيله على الجهاز المحمول، وحتى دون إنشاء حساب عليه، ودون أن يوافق على شروط الاستخدام. الشك الثاني في التطبيق يتعلق بكونه يميز ضد الأشخاص بشكل واضح، ويمنع الفيديوهات التي يرفعها الأشخاص غير الوسيمين. ويشير البعض هنا إلى أن التطبيق -سعيًا إلى جعل مقاطع الفيديو أكثر جاذبية- يقوم بعملية «تحسين النسل الافتراضي»، وذلك من خلال حذف محتوى الأشخاص الذين لا يتمتعون بالجمال والسود والأشخاص ذوي الإعاقة، وذوي الوزن الزائد، وكذلك المناطق والأحياء الفقيرة، أو خفض تصنيفه ووضعه في موجز صغير. أما الشك الثالث فيتعلق بقيام التطبيق بفرض رقابة مشددة على المحتوى الحساس سياسيا، الذي يشمل أي نقد للحكومة الصينية وأصدقائها من دول العالم، خاصة الاتهامات المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان، والتمييز ضد الأقليات العرقية والدينية، ويحظر التطبيق أي محتوى يتعلق بنقد عدد من رؤساء الدول مثل الرئيس الروسي بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان.ما الذي فعله «تيك توك» وجعل الناس ينصرفون عن تطبيقات التواصل الاجتماعي الأخرى واللجوء إليه، ببساطة شديدة لقد غيّر التطبيق الصيني التفكير في مفهوم الشبكة الاجتماعية التي تم بناؤها مع زوكربيرج في الفيسبوك، ثم في «تويتر» و«انستجرام»، وغيرها من التطبيقات. الفكرة المركزية في هذه التطبيقات كانت وما زالت جمع الأشخاص الذين يتشاركون في الاهتمامات نفسها معًا، واختيار الصداقات عليها بشكل يدوي، على عكس ذلك تقوم فكرة «التيك توك» على تقديم منصة مفتوحة لعرض الفيديوهات الشخصية القصيرة، ثم تقوم الخوارزميات الخاصة بالتطبيق، التي تتابع نشاط كل مستخدم، وتتعرف على أذواق المشاهد مع كل ثانية يشاهدها أو يتوقف عن مشاهدتها أو يتصفحها، بعرض مجموعة لا نهائية من هذه الفيديوهات على كل مستخدم، لينتقي منها ما يشاهده، ومن يتابعه من منتجي المحتوي بعد ذلك، وعلى هذا الأساس أصبح المستخدم حرًا تمامًا في اختيار المحتوى، حتى وإن لم يكشف عن اهتماماته، هنا يتميز التطبيق أن المستخدم لا يخبر التطبيق مسبقًا عما يريد رؤيته، ولكن التطبيق نفسه هو من يخبر المستخدم عن المحتوى المتوافر ويلبي حاجاته ويشبع رغباته.إن النموذج الذي يقدمه «تيك توك» جدير بالدراسة والبحث في عالمنا العربي، حتى نكون على استعداد للتعامل معه وما قد يتولد عنه من تطبيقات أخرى قد تعيد، خلال السنوات القليلة القادمة إعادة تشكيل شبكة الإنترنت برمتها.