في القبول والاختلاف والاندماج!
فكرة القبول الحقيقي بقيم الاختلاف والاندماج لا تندرج عادة فيما يمكن أن نتصوره نظريًا فنظن أننا قادرون على تمثل تلك القيم لمجرد تصورنا ذاك. وغالبًا ما تكون تصوراتنا الذهنية تلك هي أقل بكثير من أي تجربة واقعية تضعنا أمام اختبار وعينا كمجتمعات حيال فكرة القبول بالتعدد والاختلاف والاندماج.
الأمر في تقديرنا يحتاج إلى معايشة تجربة حضارية قائمة على المعرفة الفلسفية وعلى تطبيقات تلك المعرفة من خلال تجارب مجتمعية تكتسب فيها المجتمعات إدراكاً تدريجياً وعلى نحوٍ تاريخي؛ لحيازة صفات قبول بقيم التعدد والاندماج على نحو يعكس تلك التجربة الجمعية.
وفي تقديرنا أن كيانات المنطقة العربية حتى اليوم لا يكاد التعدد الحقيقي في طبقات مجتمعاتها لجهة العرق واللون واللغة هو على النحو المعياري المطلوب الذي تفترضه قيم الحداثة والحرية ومواثيق حقوق الإنسان الدولية. فمجتمعاتنا عادةً ما تتماهى مع ما هو متجانس معها وملابس لها، لكنها يمكنها أن تتصالح مع إهمال كل مختلف معها في حيثية أو صفة وإن كان جزءًا منها، فهي عند ذلك قد تتصالح مع فكرة تغييبه عن الفضاء العام لاهتماماتها وفقط لأنه مختلف!
إذاً، ليس الأمر بتلك السهولة التي نرى فيها اليوم مجتمعات أوروبية تصالحت مع فكرة التعدد والاندماج في تاريخها - بعد أن أدركت بالتجربة المريرة ـ أن ما آل إليه حالها في القبول بالتعدد والنظر إلى الآخر المختلف نظرة إنسانية صادقة، هو حال اشتغلت فيه المعرفة والتربية بدلاً من الغريزة والعادة، ولهذا أمكن ترويض كل الغرائز والميول العنصرية فيهم كبشر، حتى أصبح الاستثناء في تصرفاتهم حيال القبول بقيم التعدد والاندماج هو الاستثناء اللاأخلاقي أي ذلك الذي حين يفعله الفرد هناك سيفعله وهو يحس بتأنيب الضمير أو الخجل من ذاته.
فإذا ما استصحبنا طبيعة تكوين الكسب الأخلاقي التربوي لقيم التعدد والاندماج وفقاً لتعليم وتعلم يجعل من الالتزام بتلك القيم سلطة إنسانية للضمير والمعرفة والتجربة بالنسبة للفرد، فإننا سنجد أن الفرق الذي يحدثه تعلم القيم الإنسانية مفارق للغريزة، ولهذا فإن ما لا تتعلمه وفق منهجيات ذكية وأنت في الصغر سيكون من الصعب اكتساب مهارة التعود عليه في الكبر!
بطبيعة الحال، ندرك اليوم أن قيم الإسلام الكبرى كالمساواة وأصل البشر وضمان حرياتهم وكراماتهم هي قيم ذات أفق إنساني بالضرورة، لكننا كمجتمعات ناطقة بالعربية سنجد صعوبةً في تمثُّل تلك القيم على أرض الواقع رغم الإقرار بأنها قيم إسلامية؟ وهذه الصعوبة والمشقة التي نجدها هي ما يمكن أن نطلق عليه حالة التخلف!
لقد اكتسب الغرب قيم التعدد والقبول بالاندماج (على هذا النحو الذي يتعامل معه اليوم مع كل الجنسيات التي تلجأ إليه مما لا نجده في غير بلاد الغرب) بعد مخاض عسير لتمثل المعرفة والتجربة والحقيقة عبر أجيال ممتدة في الزمان.
وهنا سندرك أن ثمرة التربية على المعرفة والضمير بالنسبة للأطفال ستكون هي بنيات وعيهم الأول لوعي معاني الحياة، وبالتالي فإن تربية الأطفال في الغرب على تقبل اختلاف مثل اختلاف العرق أو اللون بالنسبة لهم جزء من وعيهم الأول الذي تتحكم فيه الانطباعات الإيجابية للتعليم الأول في التعريف التربوي الإنساني للاختلاف بين البشر عرقاً ولوناً ولغةً، ولذلك حين يكبر أولئك الأطفال سيكونون متصالحين مع الاختلاف اللوني أو العرقي بطريقة طبيعية ومتصالحة.
وعليه يمكن القول؛ إن الانفتاح الذي توفره مجتمعات الغرب من استعداد للتعايش وقبول للآخر والاندماج معه هو في الحقيقة ثمرة طويلة امتدت لقرون وتعرضت مجتمعات الغرب من أجل الحصول عليها لكل ألوان التجربة والمعرفة والضمير، لكي يعكس ذلك الوعي في الأجيال اللاحقة قدرةً على التعامل مع الاختلاف وفق مهارة لنظام تعليمي قيمي يكون لديه قبول أشبه بالقبول الفطري للتماهي مع الاختلاف.
وبالرغم من أن هناك مجتمعات غير عربية وغير إسلامية حتى، كاليابان وكوريا الجنوبية وتايوان إلا أنها -وإن فاقت الغرب في بعض الصناعات الثقيلة أحيانا والمهارات الخاصة- تظل عاجزة عن توفير خبرة الاستعداد لخوض تجربة قبول التعدد والاندماج -كما في أوروبا وأمريكا- لأنها بالرغم من قدراتها الصناعية العملاقة فهي مجتمعات لا تملك فلسفةً وتجريباً واحتكاكاً، كالذي توفر للغرب حين تعلم من دروس الماضي!
