بناء الشخصية في قصيدتي «قمر العارفين» و«قتيل الخضر»
إنّ المتأمل في قصيدتي (قمر العارفين، 2009) للشاعر حسن المطروشي، و(قتيل الخضر، 2017) للشاعر العراقي عارف الساعدي يجد فيهما حضورًا بارزًا للشخصية، واستعانة بتقنية الاستدعاء التاريخي والديني وتوظيفهما التوظيف الأمثل في الشعر.
وإذ يعود حسن المطروشي إلى مرجعيات التراث العماني باستدعائه شخصية «زبعر»، وهو رجل بسيط تُنسج حوله الحكايات والطرائف والأمثال في ولاية شناص وفي شمال الباطنة، مشبهين إياه بالبهلول في الأدب العربي كما ذكر الشاعر، فإنّ عارف الساعدي يعود إلى المرجعية الدينية في استلهام حادثة الخضر في القرآن الكريم مع سيدنا موسى عليه السلام وحادثة قتل الغلام في سورة الكهف.
وتتضح المرجعية هنا كون النصوص الشعرية قائمة في فكرتها على محاولة الاستعادة، ومحاولة التركيب والتوظيف؛ فالنصان في مرجعيتهما وشعريتهما يتقاطعان في الفكرة، ويذوبان مع بعضهما في الدلالات والاختلافات الفكرية والاشتغالات الفنية.
يأخذنا النصان إلى التداخل الكبير في لغتهما الشعرية، وفي دلالات تقديس الشخصية الرئيسة، واستعمالات الرموز التي أضفاها الشاعران على شخصيتي نصيهما، وفي الصورة التي انطلق منها الشاعران في إيهام القارئ بنورانية الشخصية وتعدّد فضائلها، ثم اللجوء إلى دلالات الكشف عن الصورة التي رسمها الواقع ومحاولة إحداث تصادم مع المرجعية في الدلالات.
يفتتح حسن المطروشي نصه الشعري ويختتمه بوصف كبير لشخصية «زبعر« وإبراز فضائله في المجتمع باستخدام ضمائر الغائب، في مقابل عارف الساعدي الذي انطلق في نصه بوصف شخصية الغلام باستخدام ضمائر المتكلم على لسان الشخصية نفسها، وفي كلا النصين نلحظ دلالات الفضائل الممنوحة للشخصيتين، نقرأ في (قمر العارفين) افتتاحية النص:
ينامُ لنومِ الدجاجِ
ويصحو مع الديكِ
زَبْعَرُ
يصغي لعابرةِ الطيرِ
تغدو خماصاً،
فَيَهْمسُ:
ليتَ الفتى حَجَلٌ
يتَسلَّلُ في غابةٍ أو غيابْ
فليسَ يقيناً مُروري،
ولسْتُ أشُكُّ بأنَّ مثولي ضبابْ.
يغِطُّ وقد خَبَّأَتْه النجومُ،
ستُلْقي عليه الصواري تعاويذَها،
وحْدَها القبّراتُ ترافقُهُ راحلاً في المرائي
وتفْقدُه في الإيابْ
وفي برهتينِ،
كما يفعل الحكماءُ،
يُقَسِّمُ فاتورةَ اليومِ:
* حَقٌّ لِذاتِهْ
* وحَقٌّ لِشاتِهْ
* وحقٌّ لسابعِ جاراتِهِ،
لوْ أشارتْ إلى الريحِ
أنْ بدِّديهِ،
يخِرُّ صريعاً على ظلِّها:
قَدْ أَضَعْتُ على بابِكُمْ لُغَتي والعصا.
يا شقيُّ تناديهِ،
أعْذَبُ ما يشتهي من صفاتِهْ.
ومثلها نقرأ في ختام النص:
سيلْبسُ طاقيَّة القطنِ
منذ الصباحِ،
يسايرُ ركبَ الرعاةِ،
يلامسُ جوعَ الرعيَّةِ،
يمشي وراءَ الجنازةِ،
يسألُ عن مَوئلِ المَيْتِ:
في النارِ أمْ في رمادِ المراثي؟
يسيرُ....
يسيرُ....
يسيرُ وراء هتاف الجنازةِ،
يهمس:
ليسَ يقيناً مُروري
ولسْتُ أشُكُّ بأنَّ مثولي الكنايةُ.
يترك للطرقات خطاه،
ويرمي أناشيده للشواطئ،
منكسراً يمتطي رعشتين،
ويدخلُ في ظلماتٍ ثلاثِ....
إن دلالة الصفات التي انطلق منها المطروشي في إبراز شخصيته وختم نصه بها هي دلالات ستعمل على احتواء دلالات أخرى بينها في النص، كونها صفاتٍ أولى ينطلق منها الشاعر ثم يغوص عميقًا في باطن الشخصية التي ستكشف عن صفات أخرى. ويقول عارف الساعدي في افتتاحية نصه:
شقياً خرجتُ من الأرض
أكسر ما كان يصنعه والدي
وألوذ كثيراً بأطراف أمِي
عباءتُها حرسٌ من يديه
وشفاعتها رسلٌ طيبون إليه
هكذا كنتُ أخرج في الفجر
أوقظ البقرات بلكز العصا
وألملم بيض دجاجة جيراننا
ثم أهديه للرمل
بعدها
أنتف ما ظلَ من ريشها في المكان
الصغار الشقيِون في الحي مثلي
نغير مجرى الجداول
نكسر زيتونةً في الطريق
نهش الكلاب على امرأةٍ تملأ الماء في قربةٍ
ثم أضحك حين يقولون
هذا الفتى سيد الأشقياء
وحين كبرتُ قليلاً
بقيتُ على عادتي
في اختصار البساتين بالقطع
والنهارِ بشتم الذين يمرون من جانبي
واللهاث وراء اصطياد القططْ
هكذا كنتُ ريحاً
تمرُ على قريتي
وبقيَة عقدٍ من الصبوات انفرطْ.
إنّ النصين يسلطان الضوء على شخصيات تتحرك في النصوص الشعرية، فيقومان بمنحها دلالات متحررة من الخطيئة بل هي أقرب إلى البراءة والفضيلة، وهنا تتشابه الدلالات واللغة في حضور الشخصية، وتظهر الاستفادة من السرد بإحداث تداخل شعري معه، فتبرز عناصر السرد المختلفة مثل الوصف والحوار والاسترجاع والتناص وغيرها في إبراز قيمة المحتوى الشعري في النص الجديد، فيستفيد المطروشي من المرجعية التراثية ويعمل على إعادة تشكيلها في النص الشعري كما يستفيد الساعدي من المرجعية الدينية القرآنية في إعادة تشكيل نصه الشعري بإظهار الصورة المشرقة للغلام، وهنا يجيب النصان ضمن دلالات الكشف عن باطن الشخصية بالإجابة عن مضمرات الشخصية المتمثلة في السؤال لماذا: فلماذا يعنّفه أبوه؟ ولماذا يظهر الحزن على ذاكرة الأم؟ ولماذا يقتل الشيخ الغلام؟
يجيب المطروشي والساعدي عن هذه الأسئلة، بإحداث تصادم نصي مع نصٍ آخر سواء كان نصًا حكائيًا تراثيًا أو كان نصًا دينيًا. ويلجأ كل منهما إلى التبرير في الفعل، فيقودنا الحوار إلى الكشف بعد الإيهام، فبعد دلالات القدسية التي أطلقها المطروشي في المقطع الآتي:
هو العبثيُّ الحزينُ
زعيمُ الأزقَّةِ
يَقْرِضُ شِعراً
ويقْترِضُ الخبزَ،
تدعوه بعضُ العجائزِ (صنّاجة الحيِّ)
يهجو شيوخَ القبيلةِ والأثرياءَ،
يصوغُ التمائمَ للعاشقاتِ،
يبُحْنَ لديه بأسرارِهنَّ
وأخبارِهنَّ
يُسَمّينَهُ (قمرَ العارفين).
يتدخل الحوار السردي إلى الكشف عن باطن الشخصية، ويُظهر السبب الكائن في التعنيف والتوبيخ أو منح الشخصية سمات البطولة، نقرأ ذلك في حوار الأم مع الأب:
وَشَتْ أُمُّهُ لأبيه:
أمَا شَبَّ زبْعرُ؟
أَرْسِلْهُ يرْتَعْ ويَلْعَبْ.
سيأكلُهُ الذئبُ والطرُقاتُ،
وإني لَيَحْزُنُني
أنْ يعودَ قميصُ حماقاتِه مِزْقَتَيْنِ.
ستبْعثُه أمُّه بالبخورِ مساءً
إلى جارِهم في الضريحِ:
ـ تبَرَّكْ بِتُرْبَتِه يا بُنيَّ،
وليٌّ من الصالحينْ.
له قمرٌ في البلادِ
سيرْقبُ «طارِشَه» بالرسالةِ،
يفْتَحُها ويبسملُ،
ثم يصلي:
سلامٌ على المرسِلين
سلامٌ على الهيلِ
والآسِ والزعفرانِ
سلامٌ على عتبِ الياسمينْ.
لقد أحدث الحوار انفتاحاً أوسع على شخصية «زبعر»، فبعد أن كان يحمل سمات الشقاء وصفاء السريرة في أول النص، انفتح النص بعد ذلك على أسئلة مختلفة، ليقدّم ارتباطاً بين المتخيّل/ والمقدس وبين صفاء القلب والحمق، ودلالاتهما التي تجعل من شخصية «زبعر» أيقونة تراثية في المجتمع وأيقونة شعرية في نص المطروشي.
كذلك الساعدي يبرّر في نصه حادثة مقتل الغلام، فبعد ارتباطه بموضوع الشقاء الذي يسيطر على الشخصيتين عند الشاعرين، ينطلق الساعدي مثلما انطلق المطروشي من رؤيته الشعرية بإحداث قراءة شعرية للشخصية حين يُبيّن علاقته بوالديه قائلا:
أبواي القريبان دوماً من الرب
لا يكرهان الصبيَ الذي حلَ في داخلي
الصبيَ الشقيَ العنيدْ
يدعوان الإله كثيراً
يصومان نذراً
ليحفظني من بعيدْ
شقيِاً خرجتُ من الأرض
لكننَي كنتُ أدرك أنَي سأكبرُ يوماً
وتنسلُ منِي الشقاوةُ شيئاً فشيِا
وأدرك أنَي سأغفو بعينين ذابلتين
تلمَان كلَ المواسمِ فيَا
وألتفُ ثانيةً بعباءة أمِي
وثانيةً تمسح الرأس داعيةً للغلام الشقيِ
بأن يفتحَ الله أبوابه بكرةً وعشيَا
وأدركُ أنَي سأمشي خجولاً
وأسمع جيراننا
يهمسون لبعضهم
كم تُرى كان هذا الأميرُ الخجولُ شقيَا
ستطفر لحظتها بسمةٌ من شفاهي
تقبِلهم واحداً واحداً
ثم ترجعُ نديانةً في يديِا
فالوالدن لم يكرها الغلام، إذن هناك علاقة ارتباط وثيقة بينهما فلماذا حادثة القتل إذن؟ هنا ينكشف النص بدلالاته ولغته وتشكيل شخصيته بإيجاد صورة مغايرة للمرجعية الدينية حين يطرح أسئلة مضمونية في عمق الشخصية، فيختم بها نصه عن الغلام القتيل:
ولكنَ شيخاً عبوساً
تسلَل في آخر الليل أحلامَنا
لم يكن يتبَسم هذا العجوز
ولم يكُ يفرح بالعابثين الصغار
أمسكَ العمرَ من أذنيَّ
وأرداه في الأرض خوفاً طريَا
ما الذي يفعل الشيخ يا رب
وماذا صنعتُ لهذا العجوز
لكي يُخرجَ الوحشَ من روحهِ
ويقولَ له غيِر الآن حلْمَ الفتى
واقتلِ الآن من ظلَ في طينه آدميَا
صرختُ
ولكنني كنتُ وحدي الغلامَ الذي مات طعناً
ولكنَه ظل في حضن تلك الفقيرة حيَا
صرختُ ولم يخرج الناس من نومهم
أبواي يظنَان أنَي عبثتُ بِمجرى المياه
ولكننَي كنتُ أعبثُ بالطين والدم في راحتيَا
صرختُ وكان برفقتهِ شاهدٌ
لم يحرِكْ عصاه
ولم يقترحْ للحياة صبيَا
أنا تائهٌ يا إلهي
لماذا بعثتَ العجوز ليقتلَني
كان يكفي بأنْ توقظَ النهرَ ليلاً
وتسحبَني نحوه بخطىً باردة
كان يكفي بأنْ تأمرَ النهرَ
يشربنُي دفعةً واحدة
إنّ نصي (قمر العارفين) و(قتيل الخضر) نصان مهمان في الكتابة الشعرية عند المطروشي والساعدي، وذلك باشتغالهما على عنصر الشخصية الذي عملا فيه على إعادة تشكيل النص والعمل على تكثيف دلالاته وصوره، كما إنهما نصان يقومان على التداخل بين الشعر والسرد وهو منطلق مهم في الكتابة الشعرية الحديثة استغلّه الشاعران في غير موضع من مجموعاتهم الشعرية. كما يمكن لنا إقامة عنصر مزاوجة بين النصين السابقين في التداخل اللغوي والوصفي والموضوعي لدى الشاعرين، وهو بلا شك مدخل استفادة وتقارب والتقاء لاسيما بعدد سنوات الصداقة والمعرفة والتواصل بينهما.
