ملحق جريدة عمان الثقافي: دور طليعي في نشر التنوير والحداثة
من بين أدوار مهمة قامت بها مؤسسة عمان للصحافة والنشر "سابقا وزارة الإعلام حاليا" يقفز إلى ذهني باستمرار هذا الدور غير المباشر ولكن بالغ الأهمية الذي لعبته مطبوعاتها المختلفة في غرس أفكار التقدم والاستنارة في تربة المجتمع العماني. وتوفيقها في الجمع بين أصالة وعراقة هذا المجتمع من جهة وبين بنية الحداثة المعاصرة سواء في الأفكار الكبرى أو في الإنتاج الثقافي من جهة أخرى.
هذا الدور الطليعي إذا صح التعبير لم يأخذ حتى الآن ما يستحقه من اهتمام في تجربة توثيق وتأريخ مسيرة الإعلام العماني منذ بدء النهضة العمانية الحديثة.
وقد دفعني لإلقاء بعض من الضوء على هذا الدور إعجابي الشديد بـ "ملحق جريدة عمان الثقافي" الشهري المتميز الذي بدأت أولى إصداراته في يناير من هذا العام.
إذ قفز إلى ذهني مباشرة أنه الحلقة الأحدث ضمن ٣ حلقات مثلت كلها انتقالا وتطورا بالمجتمع العماني ونخبته إلى مرحلة جديدة في الاشتباك مع العالم وتياراته الفكرية وتقنيات الإنتاج الثقافي المتلاحقة في الأدب والفنون.
الحلقة الأولى:هي تجربة الملحق الثقافي لجريدة عمان في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وهي تجربة كان لي شرف المساهمة بالكتابة فيها كمحرر بالجريدة. هذه التجربة - التي قادها في البداية المرحوم الأستاذ صلاح أبو النجا سكرتير تحرير الجريدة آنذاك -
كانت بمثابة إلقاء حجر في بحيرة تبدو في الظاهر ساكنة أو بعبارة أصح كانت بمثابة سماح لتفاعلات متصارعة تعتمل في الحياة العقلية والثقافية العمانية للظهور على السطح والسماح لها بالتفاعل الحر الخّلاق على صفحات هذا الملحق. فتجاورت على صفحاته كتابات كلاسيكية تتشبث بالأساليب القديمة وكتابات حداثية تحتفي بمنجز عربي راسخ وعماني وليد كان قد تمكن من استيعاب التجارب الجديدة عالميا وعربيا في الشعر والكتابة القصصية والمسرحية والتطور في نظريات النقد الأدبي والفني.
وظهرت في الملحق كتابات تحلل المنجز الشعري لفحول الشعر الكلاسيكي العماني مثل الشيخ عبد الله الخليلي أو المنجز الشعري لقامات شعرية عمانية جديدة صقلت تجربتها الأسفار في أصقاع الأرض وحصلت على اعتراف عربي بقيمة منجزها مثل سيف الرحبي.
وحصل المسرح العماني الوليد على صفحات ذلك الملحق لأول مرة على ما يدفع أي مسرح ناشئ للتطور وهو المتابعة النقدية للتجارب المسرحية الأولى وتلقي مخرجون عمانيون في مسرح الشباب مثل عبد الكريم جواد ومحمد بن نور البلوشي ومحمد بن سعيد الشنفري ومسرحيات مثل "دختر شال سمك" و"إشاعة فوق تنور ساخن" و"الفارس" وممثلون مثل صالح زعل والراحل سعود الدرمكي وجمعة هيكل وفخرية خميس.. إلخ، اهتماما نقديا كان النصيب الوافر منه لكاتب هذه السطور. وكان لتزامن إنشاء جامعة السلطان قابوس في نفس المرحلة دور إيجابي إذ بدأت توجد الأقسام الأكاديمية للمسرح وغيره من الفنون وتخريج كوادر ومواهب وطنية كما وجد أساتذة للنقد الأدبي قاموا بدور مهم في الكتابة للملحق مثل الدكتور أحمد درويش بالإضافة لأسماء لامعة أيضا مثل القاص الأستاذ يوسف الشاروني وآخرين.
الحذر أو التطور المتدرج من التقليدية للحداثة ومن الانغلاق للتنوير الذي كان ملمح أول ملحق ثقافي لجريدة عمان لم يمنعه من تحقيق رسالته الطليعية وأشير هنا إلى بعضها:
- إنهاء فكرة سادت بأن هناك مشروعات فكرية أو ثقافية بعينها يعد طرحها على الساحة الثقافية العمانية من المحرمات، إذ نوقشت للمرة الأولى في الملحق المشروعات الحداثية في الثقافة العربية ورموزها الذين كانوا في فترات سابقة قد تم شيطنتهم بل شجع ذلك "النادي الثقافي"ونادي الصحافة وغيرهما على استضافة رموز مهمة منهم في مسقط لأحياء أمسية شعرية أو إلقاء محاضرة فكرية والالتقاء مع الجمهور العماني وجها لوجه.(نصر حامد أبو زيد، أحمد عبد المعطي حجازي، أدونيس، الطيب الصالح).
- إنهاء فكرة أن المنتج الثقافي العماني شعرا وأدبا مازال منكفئا يعيش في الماضي أو أن أجياله الجديدة تقف متأخرة في إنتاجها عن الأجيال المناظرة لها في العالم العربي وباقي دول الخليج.
- بناء جيل حديث غير مسبوق من المحررين الثقافيين العمانيين شاركوا بحماس وجدية في الكتابة للملحق سواء من محرري الجريدة أو من مثقفين خارجها ما خلق القاعدة الأولى لمدرسة وتقاليد النقد في عمان.
- خلق الملحق منصة تتلقى وتتلقف الإبداع العربي والعماني الحديث سمحت بظهور أسماء جديدة في القص والشعر من الشباب العماني نساء ورجالا. كما تلقى الفن التشكيلي العماني ومرسم الشباب ومعارض رواد اهتماما ودعما كبيرا من صفحات الملحق.
- باختصار بنهاية تجربة الملحق الثقافي الأول كانت نتيجة المباراة فوزا صعبا بالنقاط وليس القاضية للحداثة على التقليد، وللتجريب على الجمود، وللتنوير على التشدد.
- وهو وضع عبر عنه أفضل تعبير انتقال مؤسسة عمان إلي وضع مجتمعي تستطيع فيه أخذ قرار مهم وشائك هو احتضان المشروع الثقافي الحداثي الهام والحلقة الطليعية الثانية ألا وهو إصدار مجلة "نزوى" الثقافية الفصلية وإسنادها إلى رئيس تحرير حداثي بامتياز شعرا وأفكارا هو سيف الرحبي وهي مجلة كانت ومازالت من أهم المجلات الثقافية العربية وهي تستحق في وقت لاحق- دورا واستمرارية مؤسسية منذ عقد التسعينات حتى الآن- حديثا آخر مفصلا.
- الحلقة الطليعية الثالثة: ملحق جريدة عمان الثقافي ٢٠٢٢
ردت إدارة تحرير جريدة عمان على العزلة الكئيبة التي فرضها وباء كورونا ردا ثقافيا منفتحا على العالم تمثل في إصدار ملحق جريدة عمان الثقافي الشهري الذي أستطيع أن أقول بكل أمانة أنه إضافة كبيرة للثقافة العربية وليس للثقافة العمانية فقط.
مقارنة بتجربة الملحق الثقافي لجريدة عمان وملحقها الحالي يمكن القول من متابعة معظم أعداده أن الملحق الحالي يمثل قفزة نوعية سواء في مهمته الطليعية أو في مستوى وتنوع إنتاجه أو في نسبة الحضور الإبداعي والنقدي للأقلام العمانية أو في التنوع الجندري والعمري أو في حضور أقلام من كل مناطق العالم العربي أو في التفاعل مع المدارس الأدبية والفنية والنقدية في العالم والاتصال مع أحدث إبداعاتها ومبدعيها:
- سمح التقدم الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع العماني في العقود الخمسة الأخيرة- خصوصا مع قطف ثمار عملية التعليم سواء الابتعاث للخارج أو جامعة السلطان قابوس أو الجامعات الخاصة والأهلية سمح للملحق الجديد بالتقدم نحو مهمته الطليعية نحو قيم التنوير والتقدم والحداثة بثقة وتصميم كاملين متخليا عن حذر الملحق الثقافي القديم. واستطاع في ذلك ودون مواربة التعبير عن الشخصية الوطنية العمانية المنفتحة عبر التاريخ بسواحلها الطويلة وعلاقاتها التي سبقت الجميع مع الصين وشبه القارة الهندية ومع ساحل ووسط أفريقيا والتي وصلت إلى مساهمة ملاحها العظيم أحمد بن ماجد في أهم تطور سيطرت بعده وحتى الآن على العالم الحضارة الغربية وهو تطور الكشوف الجغرافية واكتشاف الطرق الجديدة بين القارات. لا غرو هنا مع هذا الإرث الحضاري أن الملحق استطاع أن يعكس حقيقة ساطعة وهي أن عُمان كانت الدولة العربية الوحيدة التي نجت من وباء الإرهاب وجماعاته الظلامية ولم يشارك عماني واحد في جرائمها التي أساءت أيما إساءة إلى الإسلام الوسطي الحنيف.
- عبر الملحق عن التطور العالمي في إدراك "شمول" مفهوم الثقافة وبينما كان الملحق القديم يعمل في إطار المفهوم التقليدي إنها تعني فقط الآداب والفنون، فإن الملحق الجديد يعمل في إطار المفهوم الشامل للثقافة كنظام متكامل يشمل أنواع العلم والمعرفة والفن والقانون والعادات والتقاليد والقيم والأعراف والخبرات البشرية، خذ مثلا في العدد الثاني فبراير ٢٠٢٢ مقال إبراهيم فرغلي عن توحش الرأسمالية. وفي العدد الثالث مقال فخري الدين الفقي عن كيفية تحويل الثقافة في العالم العربي إلى قيمة مضافة والتعامل معها من أحد الجوانب كما فعل العالم المتقدم كصناعة هامة قادرة على دعم التنمية المستدامة. وفي نفس العدد إسهام خالد المعمري عن علاقة الشعر بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية..الخ. في العدد الرابع ومحوره الحرب ذروة المأساة الإنسانية نجد إطارا إنسانيا لواحدة من أقدم وأفظع السلوكيات البشرية كيف أثر قديما وحديثا في الفنون والآداب والموسيقى والمخيلة العامة للبشر كراهية في وحشيتها والخراب والتدمير الذي تخلفه.
- الحضور المكثف للأقلام العمانية إبداعا ونصوصا أو نقدا وتحليلا في الملحق الجديد. فمقارنة بالملحق القديم يسجل الجديد واقع النقلة التاريخية التي أفرزتها عملية التعليم والتحديث في عمان والتي عبرت عن نفسها في توافر هذا العدد المقدر من الأكاديميين والشعراء والقاصين والمسرحيين والموسيقيين والفنانين التشكيليين.. إلخ. فحضور القلم العماني في الملحق الجديد يساوي حضور القلم العربي والدولي فيه ليس فقط في "كم" المشاركات ولكن في "كيف" هذه المشاركات.
- إذ توافرت الندية وجمال النصوص وحريتها الابداعية مع النصوص العربية والأجنبية. الأهم من ذلك هو التنوع الجندري؛ فحضور المرأة العمانية في الملحق قريب جدا من حضور الرجل.. إن هذا يبدو طبيعيا جدا مع حصول كاتبة عمانية هي جوخة الحارثي، كأول عربية في التاريخ، على جائزة المان بوكر العالمية.
- اشتغال الأقلام العمانية في الملحق الجديد على مجالات كان الإسهام العماني فيها في السابق إسهاما محدودا للغاية. من أمثلة ذلك الإسهام الملموس والجاد لمثقفين عمانيين في مجالات الفلسفة والنقد الأكاديمي والترجمة والدراسات اللغوية للآداب واللغات الأجنبية.
- تنوع الفنون الصحفية في العدد الواحد من الملحق فبينما سيطر المقال والرأي على الملحق الثقافي القديم للجريدة نجد أن ملحقها الجديد يشتمل في العدد الواحد على أنواع مختلفة من فنون الصحافة الثقافية فتجد استطلاع رأي وتجد تحقيقا ثقافيا وترجمة ونقد النصوص ومتابعة لأعمال سينمائية ومسرحية ونقدا للنقد (راجع مثلا الصفحتين المتميزتين بالعدد الأول عن أزمة النقد العربي). هناك أيضا هذا الحضور البصري للصورة تصويرا ضوئيا وفنا ولوحات تشكيلية.
- يرفع هذا التنوع قيمة الملحق إلي مستويات تحذو حذو ملاحق الصحف الكبرى مثل الصنداي تايمز ونيويورك تايمز ويستفيد من تجارب الكبار في الصحافة الثقافية مثل النيويوركر ويحولها عمليا إلى وثيقة أو كتابا صغيرا يحتفظ به ويعود إليه قارئه خاصة على (الأون لاين).
- رغم الارتفاع الكبير لمستوى النصوص الابداعية في الملحق الجديد فإن القليل جدا من النصوص محدودة القيمة الفنية تسلل إلى بعض الأعداد وهو أمر مفهوم في البدايات ولكن أحكام حلقة الجودة سيحول دون هذا التسلل في المستقبل. أيضا أتمنى أن يتحول الملحق الشهري إلى ملحق أسبوعي فيكون زاد المثقف والمتعلم العماني من الشباب خصوصا ويبقيه على إطلاع على المنتج الثقافي الوطني والعربي والعالمي ويصبح فيه (ملحق جريدة عمان الثقافي) مثله في ذلك مثل ملاحق ومواقع الصحف الكبرى الجائزة أو المكافأة التي ينتظرها المواطن في نهاية أسبوع من العمل الشاق ليحلق في سماء الاستنارة والمتعة العقلية والوجدانية.
