القلق الوجودي

30 أغسطس 2022
30 أغسطس 2022

القلق مفهوم شائع في لغة الحياة اليومية لدى عموم الناس مثلما هو شائع في لغة العلم لدى علماء النفس. لكن القلق الوجودي ليس مفهومًا شائعًا، حتى لدى علماء النفس وأساتذة الطب النفسي، إذ لا يلتفت إليه إلا قلة نادرة منهم. ذلك أن القلق الوجودي -في حقيقة الأمر- ليس مرضًا يستدعي العلاج، بل هو انعكاس لحالة وجودية أصيلة أو - بمعنى أدق- تعبير عن الوجود الإنساني الأصيل. فما القلق الوجودي؟ وما الذي يميزه عن القلق العادي وعن القلق الذي يعكس حالة مَرضية؟

القلق العادي ظاهرة يعانيها كل الناس في حياتهم اليومية من حين لآخر، ومَن منا لم يعش هذا النوع من القلق مرارًا وتكرارًا! هذا النوع من القلق يكون دائمًا قلقًا من شيء ما محدد نخشى حدوثه أو نخاف منه في سياق حياتنا اليومية. أما القلق الوجودي فإنه لا يكون قلقًا إزاء شيء ما، ولذلك يميز الفيلسوف الألماني الكبير هَيدجر Heidgger بين هذا النوع من القلق وبين الجزع أو الخوف: فالجزع أمر شائع تمامًا، وهو ينطوي بطبيعته على استعداد للخوف، والخوف يكون دائمًا خوفًا إزاء هذا الشيء أو الموجود المعين أو ذاك، فهو دائمًا يكون «خوفًا إزاء» ما نخاف منه، ولذلك فإننا نشعر بأننا مقيدون بذلك الذي نخاف منه. أما القلق الوجودي؛ فليس فيه هذا النوع من الاضطراب والجزع والخوف الذي يعانيه معظم الناس في حياتهم اليومية، لأننا حينما نعاني هذا النوع من القلق لا نستطيع أن نقول ما الشيء الذي نشعر إزاءه بالضيق، فالأشياء جميعًا ونحن أنفسنا نغوص في حالة من الاستواء؛ ولهذا فإن هذا القلق يقترن بحالة من الشعور بالاستواء وبالهدوء النفسي العجيب. إنه ذلك القلق الذي نعانيه بوصفه قلقًا إزاء «اللاشيء»، أي بوصفه قلقًا إزاء «العدم» نفسه الذي يتخلل نسيج الوجود. ولهذا ينتهي هَيدجر إلى القول في عبارة صريحة: القلق يكشف عن العدم.

هذا بالتأكيد كلام عويص لا يمكن الإحاطة بفهمه حق الفهم إلا من خلال التبحر في فلسفة هَيدجر نفسها التي حفرت في أرض الفلسفة نهرًا عميقًا تفرعت منه نهيرات عديدة في الفكر المعاصر. ولكن الأفكار العويصة يمكن تبسيطها دائمًا من أجل القارئ العام. وهناك ملاحظة حدسية تحضرني الآن وأراها مهمة في إلقاء الضوء على ما سبق قوله، وهي أن الناس الذين يعانون تجربة القلق العادي باستمرار هم من لا يعانون تجربة القلق الوجودي، والعكس صحيح: أعني أن من يعانون تجربة القلق الوجودي بعمق هم أقل الناس معاناة من أشكال القلق العادي؛ ببساطة لأنهم يكونون أقل استهانة بأسبابه. الناس العاديون يكونون مهمومين باستمرار بسبب مخاوف الحياة اليومية، وذلك من قبيل: الهم الذي تجلبه أعباء الحياة وتكاليفها، والخوف من المرض والموت، بل حتى الخوف من فقدان وظيفة ما أو عدم رضاء صاحب السلطة، وما إلى ذلك. ولكن الهم في القلق الوجودي هو شيء آخر تمامًا؛ فهو هَم يتعلق بوجودنا نفسه: أعني بواقعة وجودنا في العالم.

قد يبلغ القلق مبلغًا يتحول فيه إلى حالة مَرضية مقترنة بالهواجس والرهاب وما إلى ذلك، وتلك حالة تستدعي تدخل الطب النفسي. وأنا على قناعة بأن العلاج الناجع في مثل هذه الحالات هو العلاج الكيميائي الذي يعرفه كبار الأساتذة من أمثال العلَّامة الدكتور أحمد عكاشة، ببساطة لأن هذه الحالة المرضية تكون ناتجة عن خلل في سريان بعض المواد الكيميائية في المخ من خلال الموصلات أو المشتبكات العصبية. وهذا أمر لا يصح أن يخوض فيه سوى المتخصصين، ولكني أحب أن أذكر هنا رأيي فيما يتعلق بالتمييز بين هذا النوع المرضي من القلق وبين ما يُسمى بالقلق الوجودي، وذلك من خلال المثال التالي الذي يمكن يضيء الأمر هنا: الخوف من الموت قد يصبح هاجسًا ملحًا يقض مضاجع شخص ما، ويستولي على وعيه باستمرار، ومن ثم فإن هذا الخوف يصبح حالة تستدعي العلاج. القلق في هذه الحالة يظل قلقًا إزاء الموت باعتباره واقعة شخصية، أعني واقعة تخص الشخص وحده. ولكن القلق الوجودي فيما يتعلق بالموت لا يكون قلقًا إزاء واقعة شخصية تتعلق بموتي الخاص، وإنما هو قلق يتعلق بالموت نفسه باعتباره تجسيدًا لحقيقة وجودنا بوصفه وجودًا متناهيًا (ولعل هذا النوع من القلق له صلة بما وصفه الدكتور أحمد عكاشة باعتباره قلق المبدعين والمثقفين عمومًا).

هذا القلق إزاء الشعور بالتناهي تبرهن عليه حالة أخرى تستولي على وعينا (أو بمعنى أدق: على وعي بعض الناس منا)، وهي الوعي بحقيقة الزمان نفسه، ذلك الزمان الذي نحيا فيه جميعًا، وإن كان أكثرنا لا يتأمله ولا يعي معناه؛ فما الزمان؟ الحاضر سرعان ما يصبح ذكرى من ذكريات الماضي، أي أنه يؤول إلى العدم ولكنه يظل حاضرًا معنا في وجودنا الراهن المعيش، والحاضر الآني المعيش سرعان ما يؤول إلى الماضي الذي ينتمي إلى العدم، والمستقبل الذي نتطلع إليه يظل معدومًا لم يتحقق بعد، وقد لا يتحقق على الإطلاق. وبذلك فإن العدم يحيط بنا من كل جانب، بل إنه يكون حاضرًا في وعينا بوجودنا نفسه، إن كان وجودًا أصيلًا بحق.