قهوة لمزاج السلاح، مع البردوني
بعد أيام قليلة سنذهب فرادى إليه، نعانقه في ذكرى رحيله ونرجع من عناقه أكثر حيرة في تعريف "الشجن"، معرجين في ذكراه على أسماء بلا أشخاص وأشخاص بلا أسماء يطلعون من قصيدته، نصافحهم واحداً واحدةً ونعانق شعباً كاملاً في روائح السَّمك والتوابل والتبغ.
هي عودة إذن إلى تمارين التقفية الأولى للغة الأولى، في الطريق الحافي بين المدرسة والبيت، وهي أيضاً محاولة جديدة للتنويع بين فجور الضحك وهمس البكاء أمام سخرية الكارثة بعدما وثبتْ على حدود الجنون وتمردت على أفق الخيال. لا غبار على صوته في نومه، هو التليد الجديد منذ أن كنت تلميذاً صغيراً يغلق "الشوقيات" على ركبتيه ويعيدها إلى رفوف المكتبة متطلعاً إلى أفق شعري أكثر عصرية دون أن يجرح كرامة التعريف التقليديَّ الخليليَّ للشعر.
ما زلتُ أدخل إلى صوته فتفجؤني ضآلةُ حضوري الشخصي في فضاء النص المشيد متحفاً لتاريخ اليمن الثقافي والاجتماعي (أي السياسي في نهاية المطاف)، فلا يعود بوسعي أن أثق مما إذا كنت معاصراً حقاً كلما خطفتني لغته من زماني ومكاني واقتادتني حافياً في فجاج الصحراء وراء آثار الأقدام التي خلَّفتها السلالات الأولى والقبائل النازحة، منذ أن ضاقت عليها جغرافيا اليمن المعاصر وضاق بها خياله السياسي.ِتفجعني في صوته كهولة الملامح وخلاء الدُور في قلب أبي تمام العائد:
"لا أنتَ أنتَ ولا الديارُ ديارُ".
ويشردني عن النوافذ غراب يعشعش في الكلام، ينقره ويدميه... لكن الدم إذا سال بطُل الكابوس، هكذا قال لي مُفسر بعد صلاة الفجر. فهل بطل الكابوس حقاً؟
لقد سال دم كثير، في الحلم وفي الحقيقة، وتلبَّس صحو الواقع بنعاس النوم حتى تلاشت الحدود وذهب العالم الحيران في غيبوبة الفجيعة. فها نحن مرة أخرى، بعد ألفي عام تقريباً منذ انهيار سدّ مأرب، نشهد نزوح اليمنيين عن اليمن مشيعين بأغنية البردوني التي أصبحوا يحملونها كجواز سفر في أقطار العالم: "يمانيون في المنفى... ومنفيون في اليمن".
مرة أخرى، بعد ألفي عام، ينهار سدُّ مأرب، فأجدني خارجاً في طريق القوافل مع آخر قبائل الأزد الرُّحل عن اليمن. أعلل المشقة بالسراب الذي يبتعد، وأُسائل نفسي تحت سماء الصحراء: أأنا السائح الأبديُّ على شبه الجزيرة، أم لاجئٌ يطفو في زمن عربي بلا نوعية، كما يصفه البردوني؟ ثم أنتظر لقرن كامل مع نفسي، لقرن ونصف أنتظر مزاج السلاح حتى يهدأ بخروج آخر بندقية إنجليزية من ميناء عدن، فربما شفَّت الهوية أكثر في مراياها الفصيحة فرأيت نفسي في الضفة الأخرى من نفسي، وانتميت إلى إجابة شافية تدلني عليَّ في نهار الجلاء.
لم تبدأ الإجاباتُ الشافية بعد رحيل آخر ملامح الاستعمار التقليدي عن البلاد العربية، بل اشتعل عنف الأسئلة بالذخيرة الحية التي كتبت تاريخ اليمن -بيمنيه- منذ الاستقلال حتى غداً، بينما كان شاعر اليمن الذي خَبِر شتى فصول الحياة السياسية في بلاده يغالب رمادية المشهد بظلام العمى الذي يستلهم منه تدرجات اللون. يسأله أسعد الجبوري في حوار صحفي: هل تعتبرُ الظلامَ مسقطَ رأسك؟
هو (البردوني) بشيء من السخرية: بكل تأكيد. فالظلامُ مسقط رأس الشمس. وأنا أتشرفُ بأن أكون من ذلك النسل.
السائل: أليستْ هذه إجابة تحملُ مكابرةً عظيمةً؟!
هو: الظلامُ الذي عندي هو مجرد لون، بينما عند الآخرين من المبصرين، ليس إلا مَدفناً!
وفي ليل العمى ونهاره نهبت حروب اليمن الشطر الأوفر من عمره كما نهبت أبناء شعبه، لكنَّ المأساة الطويلة جنَّحت خياله في الظلام وأطلقت نبوغه في هواء دسم بالغبار والعزلة. فرك بصيرته ليرسم بالكلمات ملامح "أم بلقيس" وصقل نايه الشعري مغنياً خارجاً من كهوف العصور إلا أنه أكثر "حداثة" من كثير ممن ادعاها. وما زال حتى اليوم يكتب تاريخ الإنسان الأعزل الذي لا تدونه الأسلحة ولا يتوغل إلى اختلاجاته السرية سوى الشعر، تحت سماء تسَّاقط نجومها ببرق السلاح المستورد.
ظمأ يستجير بنار مفتوحة الشهية في اليمن، وأطفال يهجرون مقاعد القراءة والكتابة في ما تبقى من أشباه مدرسة ليلتحقوا بالجبهات المفتوحة على ظلال تتحرك. يخسر رامبو الشعر ليربح صفقات البنادق المهرَّبة في هذه الأيام، وتزدهر غابات السلاح والذخيرة في وقت يهبط فيه الجوع على السكَّان قطعاً من الليل الطويل، في بلد يُعتقد بأنه يضم في هذه الأثناء أكبر عدد من الجائعين في العالم. وتستمر الحرب قتالاً من أجل القتال: "كان القتال بلا داعٍ سوى المددِ" قال البردوني.
إن الرحيل الأسطوري عن مأرب لا يمثل بالنسبة لي قضية تاريخية، أنا المعاصر ليمن جمهوري مستقل، موحد وغير مُتحد، بل يستفز لدي حنيناً مفتوحاً على الشعر أقيس خلاله تحولات الدهر وانقلاباته بحدود المقابر التي تزحف صوب البيوت... أصافح فيه بدايات البدايات وأودع فيه أطلال مملكة سبأ التي تنقضها الحرب لتقيم عليها أطلال "اليمن السعيد" المسافر بكل شقائه في بحّة عبدالله البردوني، آخر شعراء اليمن المخضرمين. وبالتأكيد، فإن الإنتماء إلى الوتر اليمني الراعف في "عروبة اليوم" هو ديدن عربيّ في الانتماء إلى العروبة، لا يعكر صفو هويتي الوطنية بل يجذرها في حجر التاريخ القاسي، ولا يصيبني بالالتباس وأنا واقف أمام بحر العرب.
فليهدأ مزاج السلاح قليلاً، ولنوقف الحرب على اليمن بكل ما أوتينا من حنين إلى "اليمن السعيد"!
