أحدث تطورات القوة الغربية..

20 يوليو 2022
20 يوليو 2022

ترجمة : أحمد شافعي

إن ما يطلق عليه الغربيون «الغرب» أو «الحضارة الغربية» مجال جيوسياسي نشأ في القرن السادس عشر وتوسع باستمرار حتى القرن العشرين.

في عشية الحرب العالمية الأولى، كان قرابة 90% من الكوكب غربيا أو خاضعا للسيطرة الغربية: أوروبا وآسيا والأمريكيتان وإفريقيا وأوقيانوسا ومعظم آسيا (باستثناءات جزئية في اليابان والصين).

ومنذ ذلك الحين أخذ الغرب يتقلص: بداية بالثورة الروسية سنة 1917 وظهور الكتلة الشيوعية، ثم منذ منتصف القرن مع حركات التحرر من الاستعمار. وأصبح المجال الأرضي، ثم أعقبه المجال الجوي بسرعة، ميداني نزاع محتدم.

في الوقت نفسه، كان ما فهمه الغربيون باعتباره «الغرب» يتغير. فلقد بدأ باعتباره المسيحية والكولونيالية، ثم أصبح الرأسمالية والإمبريالية، ثم تحول إلى الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وإنهاء الاستعمار، وتقرير المصير، و«العلاقات الدولية القائمة على القواعد» (مع إيضاح تام لأن هذه القواعد يضعها الغرب لتتبع ما دامت تخدم مصالحه) وأخيرا العولمة.

بحلول منتصف القرن الماضي، كان الغرب قد تقلص كثيرا حتى أن بلادا كثيرة حديثة العهد بالاستقلال قررت ألا تجعل نفسها في صف الغرب أو الكتلة التي نشأت لمنافسته وهي الكتلة السوفييتية. وأفضى هذا إلى نشوء حركة عدم الانحياز في الفترة من 1955 إلى 1961.

مع انهيار الكتلة السوفييتية سنة 1991، بدا أن الغرب يمر بوقت توسع حماسي. وفي ذلك الوقت تقريبا أعرب ميخائيل جورباتشوف عن رغبته في أن تنضم روسيا إلى أوروبا «الوطن المشترك» بدعم من الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الأب، وهي الرغبة التي عاود فلاديمير بوتين تأكيدها حينما تولى السلطة في عام 2000.

كانت فترة تاريخية قصيرة، ويتبين من الأحداث الأخيرة أن «حجم» الغرب تقلص منذ ذلك الحين بدرجة كبيرة. في غداة حرب أوكرانيا، قرر الغرب، بمبادرة منه، أن البلاد التي تطبق العقوبات على روسيا هي وحدها التي يمكن أن تعد جزءًا من المعسكر الموالي للغرب. وهذه البلاد تمثل قرابة 21% من أعضاء الأمم المتحدة وتمثل 16% من سكان العالم.

هل الانكماش انحدار؟

قد يرى المرء أن انكماش الغرب يصب في صالحه إذ يتيح له التركيز على أهداف أكثر واقعية بمزيد من الكثافة. وإن قراءة متأنية لاستراتيجيات البلد الغربي المسيطر -أي الولايات المتحدة- لتبين أنهم على العكس، ودون إدراك للانكماش الصارخ، يظهرون طموحًا لا حدود له.

وبمثل السهولة التي يتوقعون بها إمكانية تقليص روسيا (وهي من أضخم القوى النووية في العالم) إلى دولة تابعة أو خربة، فإنهم يتوقعون تحييد الصين (وهي في طريقها إلى أن تكون الاقتصاد العالمي الأول) وعما قريب سوف يثيرون حربا في تايوان (شبيهة بحرب أوكرانيا) لتحقيق هذا الغرض.

في المقابل، يبين تاريخ الإمبراطوريات أن الانكماش يمضي يدًا بيد مع الانحدار، وأن الانحدار لا ارتداد له، وأنه يجلب الكثير من المعاناة الإنسانية.

في المرحلة الراهنة، تتوازى تجليات الضعف مع تجليات القوة، بما يجعل التحليل أشد صعوبة. وثمة مثالان متناقضان يمكن أن نستعين بهما على فهم هذه النقطة بوضوح.

الولايات المتحدة هي القوة العسكرية الكبرى في العالم (وإن لم تنتصر في أي حرب منذ عام 1945) ولها قواعد عسكرية في ما لا يقل عن 80 بلدًا.

ومن حالات الهيمنة القصوى وجودها في غانا حيث تستعمل الولايات المتحدة ـ بموجب اتفاقية مبرمة في 2018 ـ مطار أكرا دون أي رقابة أو تفتيش. بل إن الجنود الأمريكيين لا يحتاجون إلى جوازات سفر لدخول البلد ويحظون بحصانة هناك بمعنى أنهم في حال ارتكابهم جريمة -مهما تبلغ جسامتها- لا تجري محاكمتهم أمام القضاء في غانا.

في المقابل، تلحق آلاف العقوبات المفروضة على روسيا الآن من الضرر بالعالم الغربي أكثر مما تلحقه بالفضاء الجيوسياسي الذي يعرِّفه الغرب بالعالم غير الغربي. فعملات البلاد التي يبدو أنها تحقق النصر في الحرب هي الأكثر فقدانا لقيمتها. والتضخم والركود اللذان يلوحان في الأفق يتسببان في أن يقول جيمي ديمون ـ الرئيس التنفيذي لشركة جيه بي مورجان آند تشيز ـ إن «الإعصار» يقترب.

هل الانكماش فقدان للتماسك الداخلي؟

قد يعني الانكماش مزيدًا من التماسك، وهذا أمر واضح للغاية. فقيادة الاتحاد الأوربي ـ أي المفوضية الأوروبية ـ أكثر اصطفافًا مع الولايات المتحدة منذ عشرين عامًا من البلاد التي يتألف منها الاتحاد الأوروبي.

ولقد رأينا هذا مع التحول النيوليبرالي والدعم الحماسي الذي أظهره الرئيس السابق للمفوضية خوسيه مانويل دوراو باروسو لغزو العراق، ونشهده الآن مع رئيسة المفوضية الحالية أورسولا فو ندي لين التي تبدو كمن تعمل وكيلة لوزارة الدفاع الأمريكية.

الحقيقة أن هذا التماسك، في حال فعاليته في إنتاج سياسات، يمكن أن يكون كارثيا في إدارة عواقب هذه السياسات.

إن أوروبا مجال جيوسياسي يعيش منذ القرن السادس عشر على موارد بلاد أخرى يسيطر عليها إما بشكل مباشر أو غير مباشر ويفرض عليها شروطا مجحفة للتبادل. غير أنه لا يصبح شيء من هذا ممكنا حينما تكون الولايات المتحدة أو حلفاؤها هم الشركاء لأوروبا.

زد على ذلك أن التماسك يتألف من تناقضات، مثلما نرى في الروايات المتصارعة بشأن روسيا.

فهل روسيا في نهاية المطاف بلد يقل إجمالي ناتجه المحلي عن بلاد أوروبية كثيرة، أم هي القوة الراغبة في غزو أوروبا وتمثل خطرًا عالميًا لا يمكن إيقافه إلا بمساعدة من استثمارات تقدمها الولايات المتحدة في السلاح والأمن لأوكرانيا ـ بلغت بالفعل قرابة 10 مليارات دولار ـ وهي البلد البعيد الذي لن يبقى منه شيء يذكر في حال استمرار الحرب لوقت أطول؟

أسباب داخلية أم خارجية؟

يتبين من أدبيات انحدار ونهايات الإمبراطوريات ـ باستثناء حالات قليلة وقع فيها دمار الإمبراطوريات لأسباب خارجية ـ مثل امبراطوريتي الأزتيك والأنكا إثر وصول الغزاة الأسبان، أن عوامل داخلية هي التي تهيمن في العموم على إحداث الانكماش، برغم أنه يمكن تعجيل الانحدار بفعل عوامل خارجية.

يصعب التمييز بين الداخلي والخارجي، ويكون التحديد الدقيق دائما أميل إلى الأيديولوجي منه إلى أي شيء سواه.

فعلى سبيل المثال، نشر الفيلسوف الأمريكي المحافظ الشهير جيمس برونهام في عام 1964 كتابًا عنوانه «انتحار الغرب» [Suicide of the West]، قال فيه إن الليبرالية ـ التي كانت مسيطرة في الولايات المتحدة آنذاك ـ هي الأيديولوجية الكامنة وراء الانحدار. في حين أن الليبرالية كانت في نظر الليبراليين آنذاك ـ على العكس ـ هي الأيديولوجية القادرة على تمكين الغرب من سيطرة عالمية جديدة أكثر سلمية وعدلا.

الليبرالية اليوم ميتة في الولايات المتحدة (والسيطرة للنيوليبرالية، وهي نقيضها) وحتى المحافظون من المدرسة القديمة خضعوا تماما للمحافظة الجديدة.

ولذلك فإن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كينسجر (وهو في نظر الكثيرين مجرم حرب) قد أزعج مناهضي روسيا الجدد بدعوته إلى مفاوضات سلام خلال حديثه عن الصراع الأوكراني في مؤتمر منتدى الاقتصاد العالمي في ديفوس بسويسرا في مايو الماضي.

مهما يكن أمر ذلك، فإن حرب أوكرانيا هي العنصر الأكبر الذي يعجِّل بانكماش الغرب. وفي حين أن الغرب راغب في استعمال قوته ونفوذه في عزل الصين، ينشأ جيل جديد من بلاد عدم الانحياز. وتمثل منظمات مثل بريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا) ومنظمات شنغهاي للتعاون، والمنتدى الاقتصادي الأوروآسيوي، وغيرها، الوجوه الجديدة للدول غير الغربية.

وما التالي؟

لا نعرف بعد. من الصعب أن نتخيل الغرب يحتل فضاء تابعا في السياق العالمي بقدر ما هو صعب أن نتخيله في علاقة سلمية ندية مع فضاءات جيوسياسية أخرى. كل ما نعرفه هو أن هاتين الفرضيتين بالنسبة لمن يقودون الدول الغربية إما أنها مستحيلة أو ممكنة فقط في سيناريو كابوسي كارثي.

لذلك تضاعفت أعداد الاجتماعات الدولية في الشهور الأخيرة، من المنتدى الاقتصادي العالمي الذي أقيم في مايو بدافوس إلى أحدث الاجتماعات الذي تمثل في ملتقى بيلدربرج الأخير في يونيو.

ولا عجب أن كانت 7 من 14 موضوعا نوقشت في الملتقى الأخير تتصل مباشرة بمنافسي الغرب.

بوفينتورا دي سوسا سانتوس أستاذ فخري لعلم الاجتماع بجامعة كولمبيا في البرتغال.

ترجمة خاصة لـ $عن «آسيا تايمز»