أرقام ودلالات في تقرير «حالة الأخبار»

05 يوليو 2022
05 يوليو 2022

منذ أيام قليلة صدر في الولايات المتحدة الأمريكية تقرير «حالة الأخبار المحلية» لعام 2022، وهو تقرير شديد الأهمية للعاملين في صناعة الصحافة. التقرير يصدر سنويا عن مبادرة «الأخبار المحلية» التي أسستها وتديرها مدرسة «ميديل» للصحافة ووسائل الإعلام والاتصالات التسويقية المتكاملة، بجامعة نورثويسترن الأمريكية، وتجمع فريقا من الخبراء في الابتكار الرقمي، ودراسات الجمهور، واستراتيجيات صناعة الصحافة، وتهدف إلى إعادة العلاقة الجيدة بين المؤسسات الإخبارية والجماهير، كخطوة أساسية للارتقاء بهذه المؤسسات التي تسهم في «تمكين» المواطنين، انطلاقا من الحقيقة التي تقول: «إن أزمة الصحافة تحولت إلى أزمة ديمقراطية، وأن نقص الصحفيين يعني أن الناس لا يملكون المعلومات لاتخاذ قرارات صحيحة لهم ولعائلاتهم، أو لمحاسبة المؤسسات».

من المهم أن نعلم قبل استعراض أهم ما تضمنه التقرير الجديد عن واقع الصحافة والأخبار المحلية، والمنشور على موقع المبادرة على الويب، أن النظام الصحفي الأمريكي يضم حاليا 4 صحف وطنية كبرى، و150 صحيفة يومية كبيرة أو إقليمية، و6227 صحيفة يومية أو أسبوعية مجتمعية صغيرة. الصحف الوطنية الأربع الكبرى، هي «نيويورك تايمز»، و«واشنطن بوست»، و«وول ستريت جورنال»، و«يو إس إيه توداي». ووفقًا لبعض التقديرات، فإن 85 في المائة من الأخبار التي تنشرها المؤسسات الإخبارية الوطنية تأتي من الصحف المحلية وصحف الولايات، التي توظف اليوم 31000 صحفي، أي أقل بنسبة 60 في المائة تقريبًا مما كانت عليه في عام 2005.

تقرير حالة الأخبار والصحافة المحلية في الولايات المتحدة الأمريكية جاء صادما ومثيرا للقلق والأسف على المستقبل القريب للصحافة بوجه عام والأخبار المحلية على وجه الخصوص، خاصة أن وتيرة فقدان الصحف المحلية وخروجها من السوق الإعلامي تسارعت في السنوات الأخيرة، خاصة وأن هذا الخروج الكبير يرافقه انتشار متزايد للمعلومات المضللة، والاستقطاب السياسي لوسائل الإعلام، وتآكل الثقة الجماهيرية فيها، وكذلك تزايد الفجوة الرقمية والاقتصادية بين مواطني الدولة والعالم.

ويعترف التقرير أن الديمقراطية الأمريكية تواجه أزمة بقاء حقيقية، يتمثل أحد أهم أسبابها في غياب الصحف والأخبار المحلية. ففي ظل هذا الغياب تنخفض مشاركة الجماهير في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة، ويزداد الفساد في كل من الحكومة والشركات، وقد ينتهي الأمر بالناس إلى الخضوع لحكومات استبدادية. وقد أظهرت البحوث الحديثة أنه، حتى في حالتها المتدهورة، لا تزال الصحف تقدم معظم الأخبار التي تغذي الديمقراطية الأمريكية على مستوى الولاية والمستوى المحلي. لذلك فإن من يملك الصحف في البلاد ما زال له تأثير كبير على الحراك السياسي والاقتصادي في الدولة.

الأرقام التي يتضمنها التقرير على مستوى الولايات المتحدة تبدو مزعجة للغاية، خاصة إذا علمنا أن أكبر عدد من الصحف في العالم ما زال يصدر من هذه الدولة مترامية الأطراف، وما زالت تحتفظ بهذا السجل، إذ تصدر بها 6377 صحيفة، منها 1230 صحيفة يومية، و5147 صحيفة أسبوعية، وأن هناك جهودا حقيقية تبذل «لتعويم» صناعة الصحافة سواء من خلال الدعم الحكومي المباشر أو من خلال مساهمات منظمات المجتمع المدني التي استشعرت خطورة غياب الصحافة والأخبار المحلية على سلامة وصحة المجتمع.

ولعل أول وأهم وأخطر هذه الأرقام أن الصحف المحلية مستمرة في الاختفاء بمعدل سريع. ويصل معدل الاختفاء- كما يقول التقرير- إلى أكثر من صحيفتين في الأسبوع. ومنذ عام 2005، فقدت الولايات المتحدة أكثر من ربع صحفها (2500 صحيفة)، وهي في طريقها لخسارة ثلث الصحف بحلول عام 2025. والأكثر خطورة من ذلك أن معظم المجتمعات المحلية التي تفقد صحيفة لا تحصل على بديل رقمي أو مطبوع.

الرقم الثاني المزعج أن أكثر من 20 بالمائة من مواطني الولايات المتحدة يعيشون فيما يُطلق عليه التقرير «صحاري إخبارية»، تسمح بوصول محدود للغاية إلى الأخبار المحلية، أو في مجتمعات معرضة لخطر التحول إلى صحاري إخبارية. ويشير هذا المصطلح إلى المجتمعات التي يتمتع فيها السكان بوصول محدود للغاية إلى الأخبار والمعلومات الموثوقة والشاملة التي تغذي الديمقراطية وتبني الشعور بالانتماء إلى المجتمع. ويؤكد التقرير أن نحو 70 مليون شخص يعيشون في مقاطعات بدون صحيفة، أو في مقاطعات تصدر فيها صحيفة واحدة فقط - عادة أسبوعية - تغطي مجتمعات متعددة ومنتشرة على مساحة شاسعة. ويصبح المشهد أكثر مأساوية إذا علمنا أن الصحف الباقية - وخاصة الصحف اليومية - خفضت عدد العاملين بها، وخفضت توزيعها بشكل كبير، مع تبخر عائدات الطباعة والإعلان. وقد أدى ذلك إلى انخفاض حاد في قدرتها على تقديم الأخبار، لتتفاقم فجوة المعلومات، ليس فقط في المناطق الريفية، ولكن أيضًا في الضواحي المحيطة بالمدينة. وتقول الأرقام إنه منذ عام 2005، عندما تجاوزت عائدات الصحف 50 مليار دولار، انخفض إجمالي التوظيف في الصحف بنسبة 70 في المائة، مع انخفاض الإيرادات إلى 20 مليار دولار، وانخفض توظيف المحررين في غرف الأخبار بنحو 60 في المائة، وانخفض عدد المصورين العاملين في الصحف بنسبة 80 في المائة.

ولعل من أهم الآثار المترتبة على أزمة الصحافة المحلية هو عودة تركيز ملكية الصحف في أيدي عدد قليل من الشركات والسلاسل الكبرى، إذ أصبحت هذه الشركات تتحكم بشكل أكبر في مصير العديد من الصحف الباقية في الولايات المتحدة، وفي تشكيل المشهد الإخباري المحلي. فمع انخفاض عدد الصحف، زادت حالات الاندماج والاستحواذ في ملكية الصحف، وأصبحت السلاسل الصحفية الكبيرة أكثر عدوانية في بيع وشراء الصحف وفي إغلاق الصحف التي لا تحقق أرباحا. وعلى سبيل المثال، ورغم أنها باعت وأغلقت نحو 120 صحيفة على مدار العامين الماضيين، لا تزال شركة «جانيت» صاحبة أكبر سلسلة صحفية في الولايات المتحدة، وتمتلك وحدها 494 صحيفة في 42 ولاية. وتمتلك أكبر 10 سلاسل صحفية أكثر من نصف جميع الصحف اليومية، بما في ذلك بعض أكبر وأعرق الصحف الأمريكية. وتمتلك أكبر 25 سلسلة ثلث جميع الصحف، بما في ذلك 70 بالمائة من جميع الصحف اليومية.

المثير في حالة الصحافة المحلية، كما يقول التقرير، أن الخيار الرقمي لم يعد حلا سحريا لمشاكل هذه الصحف، وأصبحت الصحف اليومية أشبه بالجرائد الأسبوعية. وقد استخدمت الصحف اليومية ظروف انتشار جائحة كورونا والتباطؤ الاقتصادي اللاحق لبدء نقل قرائها بقوة إلى النسخ الرقمية، ولذلك اختفت الجريدة اليومية التي تُطبع وتُوزع سبعة أيام في الأسبوع في العديد من الأسواق. وتقدم 40 من أكبر 100 صحيفة في الولايات المتحدة الآن طبعة مطبوعة ست مرات أو أقل فقط في الأسبوع. وتنشر11 صحيفة طبعة ورقية مرة أو مرتين أو ثلاث مرات فقط في الأسبوع، والطبعات الإلكترونية في الأيام الأخرى.

الأمر الإيجابي في التقرير، والذي يجب البناء عليه والاستفادة منه بالنسبة لصحافتنا العربية ومستقبلها، هو أن عدد المشتركين الرقميين في الصحف اليومية الأمريكية ارتفع بأكثر من 50 بالمائة في عامي 2020 و2021، وأن عائدات المشتركين في النسخ الرقمية تجاوزت لأول مرة عائدات الإعلان في أكبر الصحف اليومية، وهو ما يؤكد نجاح استراتيجية «ادفع لتقرأ»، خاصة مع توجه الصحف إلى خفض سعر الاشتراك الرقمي بشدة من أجل دفع قرائها إلى التحول إلى النسخ الرقمية، وهو ما قد يمثل حلا للصحافة العربية على المدى الطويل، بشرط أن تقدم خدمات إخبارية محلية تستحق أن يدفع القارئ ثمنها.