روبابيكيا العقل

14 يونيو 2022
14 يونيو 2022

كلمة «روبابيكيا» كلمة عامية مصرية مستمدة من أصل إيطالي: فكلمة «روبا» تعني ملابس، وكلمة «بيكيا» تعني: قديم أو مستعمل؛ وعلى هذا فإن الكلمة تشير إلى مهنة التجارة في الملابس أو الأشياء القديمة والمستهلكة التي لم نعد بحاجة إليها. ولذلك فإن هذه الأشياء تُسمَّى أيضًا «كراكيب»، وهي كلمة مستحدثة تشير إلى الأشياء المتراكبة بعضها فوق بعض على نحو يُفسِد النظام والترتيب؛ لذا ينبغي التخلص منها لأن وجودها أصبح يشكل عبئًا علينا. هذه «الكراكيب» توجد أيضًا على مستوى العقل، ولكن ما تشكِّله من عبء عندئذ يكون أكبر وأشد ضررًا؛ لأن الفوضى التي تُحدثها تنتقل من الخارج (أي: من الفراغ أو المكان المحيط بنا) إلى الداخل (أي: إلى أنفسنا أو عقولنا).

هذا بالضبط ما أقصده. ذلك أن الأفكار المتراكمة في العقل، تُفسِد علينا وضوح الرؤية، بحيث لا نتبين فيها السمين من الغث. ولهذا فإن الفيلسوف العظيم ديكارت قد ذهب إلى القول بأننا ينبغي أن نطرح جانبًا كل الأفكار والمعتقدات التي نجدها في عقولنا، تمامًا مثلما نطرح سلة التفاح؛ لأن التفاحة العطبة يمكن أن تفسد التفاح السليم. ومع ذلك، فإنني أرى أنه لا ينبغي التعامل مع أفكار العقل باعتبارها أشبه بالتفاح الذي ينبغي إلقاؤه كله خارج السلة (أو العقل)، بهدف وضعها جميعًا موضع شك. ذلك أن بعض الأفكار أو المعتقدات قد تتمثل لنا في وضوح وتميز منذ البداية، بحيث يتعذر الشك فيها؛ ومن ذلك- على سبيل المثال- الوعي بأنني موجود، وأن لي جسما حاضرا في هذا العالم، وغير ذلك من البديهيات الواضحة بذاتها. غير أننا حينما نتأمل موقف ديكارت بعمق وبشيء من التعاطف، فإننا سوف نتبين أنه لم يكن يؤمن حقًّا بضرورة الشك في كل الأفكار؛ وإنما كان يلجأ إلى الشك بوصفه منهجًا وقتيًا أو مؤقتًا، يتيح لنا فيما بعد أن نؤمن بتلك الأفكار والمعتقدات حينما نمتحن صدقها.

ما أود قوله هو أننا لا ينبغي التعامل مع الأفكار كلها كما لو كانت «كراكيب» ينبغي التخلص منها جميعًا منذ البداية، بل ينبغي رصد كل ما هو زائف أو سطحي منها؛ لأنها- بسبب كثرتها- يمكن أن تحجب ضوء الأفكار الحقيقية وراء الضباب الهائل الذي تخلقه تلك الكثرة من الأفكار الزائفة أو السطحية. هذا المعنى الذي أقصده هو ما عايشته مؤخرًا بشكل عملي حينما سعيت إلى ترتيب مكتبتي الشخصية؛ ولهذا فإنني أستميح القارئ عذرًا في أن أذكر تجربتي الشخصية العملية هذه؛ لأن هذا قد يضيء ما أود الإفصاح عنه هنا:

مكتبتي الشخصية محدودة، لا يزيد عدد الكتب فيها عن عشرة آلاف كتاب. نصف هذه الكتب لم أقرأه ولم أعرف بوجوده أو نسيته. تحجب الكتب بعضها بعضًا على الأرفف، فلا أتبين ما وراءها. استعنت بصديقة متخصصة في دراسة المكتبات، وقلت لها: إنني أريد تقليل عدد الكتب في هذه المكتبة، بحيث نتخلص مما ليس له قيمة، ويحجب غيره من الكتابات العظيمة. أريد لهذه المكتبة أن تتنفس! قالت: التصنيف مهمتي، أما تحديد الكتاب الذي ينبغي التخلص منه والكتاب الآخر الذي ينبغي الاحتفاظ به؛ فتلك مهمتك أنت. وهكذا عكفت على إلقاء نظرة أولية على كل كتاب، لتحديد ذلك، على الأقل مؤقتًا؛ بحيث أعقد العزم على التخلص من كتب عديدة، وعلى الاحتفاظ بكتب معينة كونها كنوزًا من المعرفة، وعلى إرجاء النظر في كتب أخرى من أجل الفحص والمراجعة فيما بعد، بحيث يمكن الاطمئنان إلى جدوى أو عدم جدوى الاحتفاظ بها. على مدى أيام متواصلة تمكنت من التخلص من عدد هائل من الكتب. انتابتني سعادة غامرة؛ لأنني لأول مرة اكتشف أمهات الكتب المهملة التي تختفي وراء الغث من الكتب التي تخلصت منها الآن. تلك الأمهات من الكتب هي الكتب التي أسهمت في تشكيل وعينا، وهي كتب يمكن أن نرجع إليها باستمرار لنتعلم شيئًا جديدًا لم ندركه من قبل حينما قرأناها أول مرة.

معظم الأفكار لا قيمة لها؛ لأنها تكون لصيقة بما هو لحظي وعابر، ومن ثم فإن الزمان يطويها كما لو كانت مجرد أضغاث أحلام. الأفكار العظيمة هي تلك الأفكار التي يمكن أن نتعلم منها دائمًا، حتى إن كانت وليدة التأمل في حادثة لحظية عابرة! وأظن أن هذا هو المعيار الذي ينبغي أن نستند إليه في التمييز بين الكتابات الثمينة والكتابات الرديئة. ولهذا فإنني أتمنى أن يمهلني الزمان لكي أتمكن من الاستفادة مما هو موجود على الأقل في مكتبتي من أمات الكتب، والاستفادة مما يمكن أن نجده من الكتابات العظيمة على مر الزمان الذي نعيشه. ولكن من المهم أيضًا أن نعي أن الجديد لا يلغي القديم، فأمات الكتب سوف تبقى حاضرة على الدوام، حتى إن كانت من إبداع عقول تنتمي إلى أزمنة بعيدة.