كونجرس الصحفيين وموعد جديد مع التاريخ
ستكون سلطنة عمان على موعد جديد مع التاريخ، عندما تصبح ثاني دولة عربية، وأول دولة في غرب القارة الآسيوية تستضيف بمركز عمان للمؤتمرات والمعارض، اجتماعات الجمعية العامة للاتحاد الدولي للصحفيين (الكونجرس) في نهاية شهر مايو القادم، وتحديدا خلال الفترة من 31 مايو وإلى 3 يونيو 2022، والذي من المتوقع أن يشهد تدفق أكثر من 300 صحفي يمثلون العشرات من النقابات والاتحادات والجمعيات الصحفية في أكثر من مائة دولة.
ستجاور مسقط عددا قليلا من العواصم والمدن التي نالت شرف استضافة كونجرس الاتحاد الدولي للصحفيين، بداية من بروكسل في العام 1952 ونهاية بتونس في العام 2019.
وسيسطر اسمها في تاريخ الاتحاد باعتبارها العاصمة العربية الثانية التي وقع عليها الاختيار لتكون مكانا لتجمع هذا العدد الكبير من ممثلي النقابات والجمعيات الصحفية. ويكفي أن نشير هنا إلى أن تونس التي استضافت النسخة الفائتة (الثلاثين) من الكونجرس تذكر في كل المحافل الإعلامية والأكاديمية باعتبارها المكان الذي تم فيه تبني الإعلان العالمي لأخلاقيات المهنة للصحفيين، الذي أعاد التأكيد على المعايير الأخلاقية التي تضمنها إعلان مبادئ الاتحاد الدولي للصحفيين الخاصة بممارسة مهنة الصحافة الصادر في 1954 والمعروف بإعلان «بوردو» نسبة إلى المدينة التي وقع فيها.
هذه الاستضافة التاريخية -إذا جاز التعبير- لا تستمد أهميتها فقط من أهمية الاتحاد الدولي للصحفيين الذي يُعد أكبر منظمة عالمية للصحفيين، ويمثل أكثر من ستمائة ألف إعلامي أعضاء في 178 نقابة وجمعية من 148 دولة حول العالم، منها 21 نقابة واتحادا وجمعية في العالم العربي من الأردن، والإمارات، والبحرين، وتونس، وجيبوتي، والسعودية، والسودان، وسوريا، والصومال، والعراق، وعُمان، وفلسطين، والكويت، ولبنان، والمغرب، وموريتانيا واليمن.
لا تستمد استضافة سلطنة عمان لكونجرس الاتحاد الدولي للصحفيين من كون الاتحاد هو المنظمة التي تتحدث باسم الصحفيين في جميع أنحاء العالم، وتدافع عنهم داخل منظمة الأمم المتحدة، أو بسبب تاريخه الذي يعود إلى العام 1926، ولكن من المعايير الصارمة التي يضعها للدول التي تتقدم بطلب استضافة «الكونجرس الدولي للاتحاد» الذي يعقد كل ثلاث سنوات. وتتم المفاضلة بين الدول التي تتقدم بطلب استضافة الكونجرس على أساس معايير عدة، منها طبيعة النظام السياسي للدولة، وعلاقاتها بمواطنيها والعالم الخارجي، وتعاملها مع الصحفيين، وإنجازاتها التنموية.
وفي ضوء ذلك فإن اختيار الاتحاد لسلطنة عمان لتكون مكانا لاجتماعات الكونجرس الحادي والثلاثين للاتحاد، هو بمثابة شهادة «كفاءة» و«جدارة» دولية أخلاقية لسلطنة عمان كدولة مستقرة داخليا لا تعادي أحدا، وتقوم علاقتها مع دول العالم على أساس السلام وحسن الجوار والتسامح، وكذلك شهادة حسن سير للإعلام العماني الذي يتطور تطورا هادئا وملموسا منذ انطلاقه في العام 1970 وحتى اليوم، محافظا على تقاليد المجتمع، وبعيدا عن الإثارة المذمومة، ومؤديا لوظائفه الأساسية للفرد والمجتمع. وقد جاء اختيار سلطنة عمان بالإجماع خلال اجتماعات المكتب التنفيذي للاتحاد الدولي للصحفيين الذي عقد في سبتمبر الفائت.
وقد يقول قائل وما المردود الذي يعود علينا من هذه الاستضافة التي تتولاها جمعية الصحفيين العمانية، بدعم من مختلف مؤسسات الدولة؟ الواقع أن عائدات استضافة تلك التظاهرة الصحفية العالمية في عُمان كثيرة وأكبر من أن تحصي.
ويكفي أن نشير هنا إلى الزخم الإعلامي الذي ستحدثه في الإعلام الدولي، والذي سيتردد فيه اسم سلطنة عمان كثيرا، إلى جانب الصورة الذهنية الإيجابية التي سوف تتشكل وتدعم في كل مرة ينشر فيها خبر أو تقرير من مسقط عن اجتماعات الاتحاد، وهذا في حد ذاته تأكيد على ما تتمتع به سلطنة عمان من استقرار سياسي وأمني وإعلامي، وهو ما يصب في النهاية في جذب مزيد من المستثمرين والسياح لزيارة السلطنة. وفي تقديري فإن تكلفة استضافة مثل هذه التجمعات المهنية الدولية ربما لا تساوي ثمن إعلان قصير في محطة تلفزيونية عالمية أو صحيفة دولية ومع ذلك فإن عائداتها تكون أكبر من كل الإعلانات وحملات العلاقات العامة التي تستهدف الترويج للسياحة أو للاستثمار في سلطنة عمان، خاصة وأن جميع الضيوف من الصحفيين الذين يقودون الرأي العام في مختلف دول العالم.
وعلى المستوى المحلي فإن استضافة هذا العدد الكبير من الصحفيين والإعلاميين من مختلف دول العالم والمعنيين بقضايا مهمة مثل: حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير وسلامة الصحفيين والممارسة الأخلاقية لمهنة الصحافة، يضيف الكثير من المعارف للمهتمين والمتابعين من الجمهور العماني، والإعلاميين العمانيين، وطلبة وطالبات الإعلام، خاصة وأن المناقشات التي ستجرى حول هذه القضايا العالمية في الجلسات والندوات والحلقات النقاشية التي من المقرر أن تعقد على هامش اجتماعات الجمعية العمومية ستكون بمثابة دروس إعلامية مجانية، تسهم في زيادة فهم وإدراك الجمهور للقضايا العالمية المتصلة بحرية وأخلاقيات العمل الإعلامي، والتي لم يعد الحديث عنها من قبيل الترف الفكري في العصر الحالي، وتصب في النهاية في جهود التربية الإعلامية التي تقوم بها مؤسسات عديدة في الدولة لزيادة وتعزيز الوعي الإعلامي في المجتمع. ولا شك أن الترويج الذي سيوفره هذا الحدث العالمي لمفاهيم مثل حرية الصحافة والحريات المرتبطة بها، وواجبات وحقوق الصحفيين، والأخلاقيات التي يجب أن يتخلق بها كل من يعمل في مهنة إعلامية تقوم على إنتاج ونقل المعلومات والآراء إلى الناس، سوف ينعكس بالضرورة على الأداء الإعلامي في المستقبل، بما في ذلك أداء المواطنين الصحفيين والمؤثرين على شبكات التواصل الإعلامي.
لقد أحسنت جمعية الصحفيين العُمانية صنعا عندما بادرت بطلب عقد كونجرس الاتحاد الدولي للصحفيين في سلطنة عمان. وبعد أن نجحت في إقناع أعضاء الاتحاد من نقابات وجمعيات في اختيار السلطنة لاستضافة الكونجرس، أحسنت أيضا الاستعداد لهذا العمل الوطني الكبير. وفي المؤتمر الصحفي الذي عقدته الأحد الفائت برعاية معالي الدكتور عبد الله بن ناصر الحراصي وزير الإعلام، بدا أن كل الترتيبات أصبحت جاهزة قبل أكثر من شهر على التاريخ المقرر لانطلاق الكونجرس. ويكفي أن انطلاقة أعمال الكونجرس ستكون برعاية صاحب السمو السيد أسعد بن طارق آل سعيد نائب رئيس الوزراء لشؤون العلاقات والتعاون الدولي والممثل الخاص لجلالة السلطان، ولعل هذا يؤكد ما قاله د.محمد العريمي رئيس جمعية الصحفيين العمانية في المؤتمر الصحفي الذي أشرنا إليه، من أن ملف استضافة اجتماعات كونجرس الاتحاد الدولي للصحفيين في سلطنة عمان انتقل من كونه ملفا خاصا بجمعية الصحفيين إلى ملف دولة بالكامل، وذلك في إقرار بتضافر كل الجهود لإنجاح هذه الاستضافة التاريخية، والتي تشارك فيها جهات عدة في الدولة منها وزارة التنمية الاجتماعية، ووزارة الخارجية، ووزارة التجارة، ووزارة الإعلام، وديوان البلاط السلطاني.
أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس
